أما بعد فإنه قد تقرر للعلم مكانة لا تجهل ومنصة لا يحط فارعها ولا يستنزل قد ركب سَرَاة النفوس مطايا العزم في تحصيله، ولجتمعوا ولو افترقوا على تفضيله وتأصيله وتفصيله، وقلّبوا في محاسنه أحداق الصائر، وعضوا على أحاسنه بالنواجذ وعقدوا عليها بالخناصر، حتى ظهرت عليهم خلع العرفان، وتوجت نفوسهم الزكية بمواهب الرحمن، وتلك قصارى الهمم غير القواصر، ومنتهى أمل الجهابذة الأكابر فالأريب من صرف لدرايته عزمه، وتابع في تحرير روايته كده وحزمه، كي يلتحق بالجلّة الأول ولا يعدم من مشربهم نهلاً ولا علل.
هذا وإن ممن رمى ميدان الاشتغال بسهم صائب، وأرجو من الله أن يصل بانقطاعه إلى أسنى المطالب، الفقيه الألمعي والأديب اللوذعي ابن الروح الأعز أبا عبد الله محمد السنوسي سمي قاضي القضاة جده المتجاوز بفضل الله لشأوه وحده، وقد التمس مني إجازة تامة، مطلقة عامة، فناجيت نفسي الأبية، عن غصب الرتبة العلية، الخبيرة بمقدارها، المستقيلة من سوء عثارها، فأجابت بأن هذه المنصة وإن كانت لديها، دون أن أتطاول إلى الترقي إليها، إلا أن مساعفة الطالب لنيل مرامه، حتى يشتفي من ظمأ اشتياقه وأوامه، إذا حسنت فيه السريرة، وتمحضت السلامة من حظوظ النفس الشريرة، أمر لا ينكره شرع ولا عادة سيما إن أثمر الإفادة والاستفادة ورُجِيَ شمول التبرك بذلك، وقصد التأسي بسلفنا أولئك.
فعند ذلك قلت حامداً مصلياً قد أجزت الأعز ابن الروح المذكور جميع ما تصح روايته عني بشرطه كما أجازني بذلك على العموم والدي أظله الله بسحائب رضوانه وأسكنه أعلى فسيح جنانه عن شيخه العلم سيدي محمد بيرم الثالث عن جده سيدي محمد بن حسين بيرم عن شيخه سيدي أحمد بن حسين الماكودي الحسني عن سيدي علي بن أحمد الحريشي عن شيخ الجماعة سيدي عبد القادر الفاسي بن يوسف عن شيوخه الثابتين بفهرسته نفعنا الله بهم وأعاد علينا من بركتهم.
وبسند آخر لخصوص صحيح البخاري عن والدنا إلى الشيخ الحريشي عن الشيخ سيدي عبد الله العياشي عن الشيخ سيدي علي الأجهوري عن أبي حفص عمر المعروف بأبي النجائي عن شهاب الدين الحجازي عن شيخ الجماعة ابن أبي المجد عن الحجار عن الزبيدي عن أبي الوقت عن الداودي وأبي ذر عن السرخسي والكُشْمِيهَني زاد أبو ذر والمستملي عن الفربري عن البخاري.
كما أجزت له في التصدر للتدريس فليتوخ ما لهذا المقام العالي النفيس من الإخلاص لله وتقواه فإنه ملاذ كل أمر ومناه، باذلاً في النصيحة الوسع مستعملاً للضروب المنتجة لعظيم النفع، قائماً بما يجب للسلف من الأدب والتلطف، متجنباً لمذموم التشدق والتعسف، مراجعاً من فوقه فيما لم يصل إليه، حتى يكون على بصيرة فيما يلقيه لمن بين يديه، فإن العلم أمانة، وقَفْوُ غير المعلوم من أعظم الخيانة، متلبساً لما يجب لمولانا سبحانه من الشكر، متذكراً لي بصالح الدعاء عند الحضور في السر، وعلى الله القبول، وإليه الوسيلة في بلوغ المأمول، إنه ولي ذلك وحسبنا الله ونعم الوكيل، قاله منيباً في كتابته خديم العلم الشريف الطاهر بن محمد النيفر أناله الله من رضوانه الحظ الأوفر في ٢ الثاني من ربيع الأول سنة ١٢٩٠ تسعين ومائتين وألف.
وهو عالم فاضل عالي الهمة زكي النفس شهم محب للخير، تقدم للإمامة والخطبة بجامع النفافتة أولاً ثم بجامع باب البحر البراني بعد وفاة أستاذه الشيخ علي العفيف فاستلان القلوب بحسن مواعظه وتلاوته التي حسنها بحسن صوته.
وقد طرأ عليه ضعف بأعصاب صدره بسبب كثرة الإقراء فاختلت مواظبته مدة، وعند ذلك قدمه المشير محمد الصادق باشا باي لخطة القضاء بالحاضرة رابع جمادى الأولى سنة ١٢٩٠ تسعين ومائتين وألف، فقام بأعبائها وزانها بالمحافظة على شرف ناموسها، وقام لها قيام الزعيم من أول وهلة بثبات وحزم لا نظير له جزاه الله خيراً، وبالجملة فإنه عالم ثقة.
ولما ولي الخطة المذكورة هنيته بقولي: [الكامل]
البشر أسفر عن محيا زاهرِ ... ورياضه عمت بنشر أزاهرِ
والطير في أدواح أفراح يُرى ... بتصادح نغمات خير مزاهرِ
فدنا لنا قطب المسرة وانثنى ... غصن المبرة باهتزاز باهرِ
والأرض عرّفها أريج فاغتذى ... تدبيجها يُزري بحلي السامرِ
ما إن ترى غير الثغور بواسماً ... لمواسمٍ بُهرت ببشر ظاهرِ