وتفتنه بالمحقرات، وتخلق له الخصوم من الأمة التي يعمل لها ولخيرها، وأن يصرف همّه كله إلى تربية الأمة وجمع صفوفها على حقّها الوطني وتحريك الساكن منها، وإيقاظ النائم، وتنبيه الغافل، وتأليف الشارد، فإذا تمّ له ذلك أصبح مرهوبًا من الحكومة، وأصبح محبوبًا عند الأمة، قليل الخصوم، وبذلك يصبح متحكّمًا في عدة ميادين ... متحكمًا في الانتخابات الأهلية يسيّرها في المصلحة الوطنية ويقدّم لها من يقدّم على أساس الكفاءة، لا على الاعتبارات الحزبية والشخصية، وبتحكّمه في الانتخابات يكثر النوّاب الصالحون، وبهيمنته على النوّاب يوحّد كلمتهم ويوجّههم إلى التي هي أنفع فيصبحون قوة ذات بال.
وعندي أن إمام الزعماء السياسيين في الشرق سعد زغلول نقصت قيمة زعامته السياسية بنزوله لميدان النيابة والحكم بشخصه، ولو أنه تعالى عنها وترفّع، وبقي في أفق الزعامة مشرفًا على تربية الأمة تربية سياسية كاملة، لحطّم في الاستعمار حطمة تقصر عمره.
أطلت فضل إطالة في الحديث عن الانتخابات النيابية وآثارها السيّئة في الجزائر معتمدًا على ما رأيت بعيني وبلوت بنفسي، ولو عممت الحكم عليها في جميع شعوبنا الشرقية لما كنت بعيدًا عن الحقيقة، فإن الانتخابات اختيار للمصلحة العامة، وشعوبنا ما زالت مضللة مسخّرة، ومخدوعة مسحرة، لا تفقه للمصلحة العامة معنى، فضلًا عن اعتبارها، فضلًا عن حسن الاختيار لها، فما أحوجها في هذه الفترة المضطربة إلى مستبد عادل، ومن لها بالمستبد العادل؟
ولنرجع لفصل كلامنا على بدء الحركات السياسية الوطنية بما يتمّمه.
كانت الحركة التي بدأت كلامًا من الشيخ الحاج محمد بن رحّال والأمير خالد والدكتور موسى، وانتهت بظهور الدكتور صالح بن جلول في الميدان، حركة ضعيفة، شأن بدايات الأشياء، وكانت حركة الدكتور بن جلول على نشاطها واتّساع دائرتها بالنسبة إلى سابقتها حركة سياسية تدور على محور مخصوص، لا وطنية تدور على مبدإٍ وطني عام. ومن وصفها بأنها وطنية فهو متجوز أو هو لا يحسن تصوير الأشياء على حقائقها.
أما الحركة الوطنية، بمعناها الصحيح المنطبق على لفظها، فقد قامت بها في الجزائر ثلاث هيئات، تتفاوت في القوة والضعف، وفي الشدة والتسامح وفي التسرّع والأناة، وفي وضوح المبدإ وغموضه، وفي استقامة الاتجاه والتوائه، ولكنها لا تختلف في الغاية وهي العمل والإعداد لاستقلال الجزائر وإنقاذها من الاستعمار الفرنسي، ولا تختلف في صدق التوجّه إلى هذه الغاية.
أما الهيئة الأولى فهي ـ[جمعية العلماء المسلمين الجزائريين]ـ.