وحدثت أنّ امرأة أهدت إلى بشر بن الحارث سلة عنب، فقالت: هذه من صنيعة أبي فردها بشر عليها، فقالت: سبحان الله تشك في كرم أبي وفي صحة ملكه وميراثي منه وشهادتك مكتوبة في كتاب الشراء، فقال: صدقت ملك أبيك ولكنك أفسدت الكرم، قالت: بماذا؟ قال: سقيته من نهر طاهر يعني طاهر بن الحسين بن مصعب بن عبد اللهّ بن طاهر صاحب المأمون، وهذا النهر هوالخندق المعترض في الجانب الغربي، لم يكن يشرب من الخندق ولا يمشي على الجسر وقد كان بشر يقول: منذ ثلاثين سنة أشتهي شواء وما أتركه زهداً فيه ولو صحّ لي درهمه لأكلته، فهذه سيرة المتقدمين وطريق السالفين، من سلكها لحق بهم وكان كأحدهم، ومن خالفها فليس على سنّة السلف، ولا من صالحيّ الخلف وسعة رحمة الله الواسعة بمشيئته السابقة، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وقد كان من سيرة القدماء من أهل الورع أنْ لا يستوعب أحدهم كليّة حقّه بل يترك شيئاً خشية أنْ يستوفي الحلال كله، فيقع في الشبهة، فإنه يقال: من استوعب الحلال حام حول الحرام، فكانوايستحبون أنْ يتركوا بينهم وبين الحرام من حقهم حاجزاً من الحلال لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من يرتع حول الحمى يوشك أنْ يواقعه، ومنهم من كان يترك من حقه شيئاً لغير هذه النية، ولكن لقول اللهّ عزّ وجلّ (إنَّ الله يَأمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسَانِ) النحل: ٩٠ قالوا: فالعدل أنْ تأخذ حقك كله وتعطي الحق، والإحسان أنْ تترك بعض حقك وتبذل فوق ما عليك من الحق لتكون محسناً، ولأن اللّّه تعالى كما أمر بالعدل قد أمربالإحسان لقوله:(حَقّاً عَلَى المتَّقينَ حَقّاً عَلَى المحُسِنينَ) البقرة: ١٨، - ٢٣٦، وهذه الطريقة قد جهلت من عمل بها فقد أظهرها، حدثونا عن بعضهم قال: أتيت بعض الورعين بدين له عليّ وكان خمسين درهماً، قال: ففتح يده فعددت فيها إلى تسع وأربعين درهماً فقبض يده، فقلت: هذا درهم قد بقي لك من حقك، قال: قد تركته لك إني أكره أنْ أستوعب مالي كله، فأقع بما ليس لي، قد كان عبد اللهّ بن المبارك وغيره يقول: من اتّقى من تسعة وتسعين شيئاً ولم يتّقِ من شيء واحد لم يكن من المتّقين، ومن تاب من تسعة وتسعين ذنباً ولم يتب من ذنب واحد لم يكن من التوّابين، ومن زهد في تسعة وتسعين شيئاً ولم يزهد في شيء واحد فليس من الزاهدين، وقد روى عطية السعدي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يكون الرجل من المتّقين حتى يترك ما لا بأس به حذاراً مما به البأس، وروينا عن أبي الدرداء: إنما التقوى أن يتقي اللهّ العبد في مثقال ذرة حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أنْ يكون حراماً، يكون حجاباً بينه وبين الحرام، وبمعنى هذا ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: كنا نترك سبعين باباً من الحلال