بعد ذلك حن إلى وطنه، وظن أنه قد حاز من العلم ما يهيئ له مقارعة الأعداء بالحجة والبيان، واستأذن شيخه في العودة إلى البلاد بعد أدائه الحجة الثانية وهو لا يدري ما سبق في قدر الله من الخير - ولما فرغ من أداء المناسك اجتمع بشيخ جليل من بني قومه يقيم بجدة وجرى نقاش علمي في مسألة فقهية فأدلى دلوه، وتقدم في الحديث على جلسائه، وسرد النصوص التي يحفظها من الكتب التي قرأها فقال له الشيخ: يا بني - وبكل بساطة وهدوء – "إن هذه المسألة ورد فيها حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف النصوص التي ذكرت، ويدل على غير ما قرأت"، وقرأ عليه حديثاً ملك مجامع قلبه، وألجم لسانه، وفند حجته، وامتلأ مهابة, وقال: إذاً, علام خالفت المتون هذا الحديث؟! فقال الشيخ:"يا بني, إن جميع المتون وكل الكتب تابعة لأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما سمعت ما قال الإمام مالك، وهو يرد فتوى سمعها عن أمير المؤمنين عمر: "كل كلام فيه مقبول ومردود سوى كلام صاحب هذا القبر وأشار إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِر} . (النساء: ٥٩)".
ومن يومها قرر عدم السفر وكان يقول: "فأجمعت أمري على العودة إلى المدينة المنورة لأتقوى في دراسة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونظرت إلى زملائي المسافرين نظرة مودع مفارق فراق غير وامق، وقلت في نفسي: إذا كان ما تحصلت عليه لا يقنع مسلماً ليعود عما هو عليه، فلأن أعجز عن إقناع الملحد المعاند من باب أولى, وقلت لهم: بلغوا آلي أنني لن أعود إلى البلاد حتى يأذن الله، وغربة عن الأوطان في سبيل العلم والمعرفة خير من إقامة سعيدة بالأوطان على جهل وتبعية".