للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ضربنا لك بهذا مثلاً ما كنّا لنخترعه ولكن نقلناه عن الوقائع الّتي شاهدناها بأنفسنا في بلادنا، وهذا ما خطر بالبال متعلّقاً بحالة البلاد من الوجهة الاقتصادية.

أمّا حالتها من الوجهة الاجتماعية فلا مندوحة من الإشارة إلى ما يجول في النفس بسببها ويكون غالباً مثاراً لأسفها ومصدراً لألمها. وذلك لما يشاهده الناظر المستطلع للأحوال الّتي ترتبط بين كبار البلاد وأشرافها وبين الأفراد (الّذين هم السواد الأعظم في كلّ أمّة) من الانحلال وعدم الوئام، حتّى إنّك إذا رددت الطرف لترى تلك الرابطة بينهما، لا تجد إلا أنّ الحالة أصبحت ولا أثر لمعالم الوفاق بين الوضيع والرفيع، فلا تجد هيبة عند مسود لسيّد ولا احتراماً ولا وقاراً. لذلك لا يسع الغيور على مصلحة أمّته إلا الإشفاق على مثل هذه الحال. وهنا لابدّ وأن القارئ تتوق نفسه لمعرفة الأسباب الّتي أنتجت مثل هذه النتيجة المحزنة، والدواعي الّتي أوجبت مثل هذا الانقلاب، فأقول: إنّ رجال الحكومة وأولي الأمر في هذه البلاد سلكوا مع الكبراء والعظماء فيها مسلكاً وعراً، وركبوا معهم مركباً خشناً. ذلك لأنّهم ما رأوا ذا نفوذ وشوكة إلا وعملوا للكسر من شوكته والضغط عليه بيد غير ليّنة. وعندي أنّ مثل هذه المعاملة لا تلتئم مع مصلحة البلاد وأهلها بوجه، فإن هذه الأعمال أو تلك السياسة إن حسبوها نجحت مرّة فلسوف تخطئ

مرّات. وعلى كلّ حال هي لا تنتج إلا عكس المطلوب منها، لأنّ رجال الحكومة إذا استطاعوا اليوم إبادة نفوذ هؤلاء السادة ومحوه من صحيفة الوجود، فلن يستطيعوا أن يقفوا أمام كلّ من يقوم خلفهم من نابتتهم وأولادهم، ذلك الخلف الّذي يملك من نفوس العامّة بحكم الطبيعة صفة الرضوخ والانقياد بسهولة تساق بحكم ما تأصّل في النفوس من السالف القديم. وأنت خبير بما للاحترام السائد لذوي البيوتات الرفيعة في كلّ أمّة من التفوّق والرجحان. هذا فضلاً عمّا يعرف بحكم الطبيعة على الميول والعواطف من التأثير والقوّة. وإنه إذا صحّ ما يقال من أنّ بعض أرباب الرتب وأصحاب الحيثيّات والمقامات قد ارتكبوا ما لا يحسن بأمثالهم حتّى ساءت سمعتهم، فلا ينبغي أن يؤاخذ الكلّ بذنب البعض، ولا يعاقب البريء بذنب المجرم. على أنّي تقابلت مع كثير من أصحاب البيوتات الكبيرة وأرباب المقامات العالية في بلاد الشام، فوجدت منهم رجالاً يتفانون في حبّ الدولة مخلصين في وطنيّتهم، وفيهم غيرة قويّة وشهامة

<<  <   >  >>