أقول لك نعم إذا كان الأب غير الأب والابن غير الإبن، وكيف لا يعاتب الابن أباه وهو لا ينظر إلى العلاقة التي بينهما على أنها علاقة دم وقرابة ونفقة وحالة مدنية فقط.
بل ينظر إلى هذه العلاقة نظرة أبعد من هذا بكثير؛ فهما صديقان وحبيبان وأخوان ورفيقان، وهما أب وابن حاصل الجمع بينهما اثنان لا يعرف نوعية العلاقة بينهما إلا الله، والراسخون في معرفتهما إني أعاتبك يا أبي لأنك في نظري أب متميز فأنا أعلم أن غيابك عني في كثير من الأحيان أمرا فوق إرادتك، وأعلم أن خروجك من بيتك لا يكون إلا في معروف أمرك به دينك، وهذا لن يقلل أبدا من شأنك في نظري، بل زانك رفعة وسموا وقدرا وعلوا، وضربت بذلك أروع الأمثلة لبعض الآباء الحيارى التائهين العاجزين الذين أخلدوا إلى الأرض كسالى نائمين، وفرطوا فيما أمر به رب العالمين.
بيد أن الذي يعاتبك عليه يا أبي هو بعض نسيانك لي في زحمة أشغالك واهتماماتك، وإغفالك لإدراك اسمي بإدراج اسمي في مواعيد مذكرتك، ولولا حسن ظني بك وما لك في نفسي من أثر حسن خفي وجلي ولي فيك من أمل وفي، لما عانيت فيك ما أعاني ولما قاسيت فيك ما أقاسي ولاقيت في الصبر عليك ما ألاقي؛ فإنك حرمتني عطفك وحنانك، ومنعتني أبوتك وصداقتك، وبخلت عليا بِبِرِّكَ ووقتك، كم من ليلة انتظرتك فيها يا أبي على فراش نومك حتى تقرُّ عينيّ بك، وأظفر بصحبتك، لكن تأخرك في الحضور حرمني من معانقتك والسلام عليك؛ حتى إذا صحوت من كابوس مزعج رأيت بصيصا من النور في غرفة نومك؛ فطرت فرحًا للقياك وشوقا لتقبيلك فارتد إلي بصري خائبا ولم يكن إحساسي صائبا إذ لم أجد سوى أمي الحبيبة التي تهدهد أخي الصغير فلما أحست بمقدمي رفعت رأسها ونظرت إلي مرة عرفت من خلالها أنها تعاني ما أعانيه، وتكابد ما أكابده، وتغالب ما أغالبه.
فالمسكينة وإن كانت تلجم لسانها عن الشكوى، فإني قرأت في عينيها وتقاسيم وجهها حزنا دفينا وألمًا كبيرًا، كأن أمر غيابك عنها يا أبي ليس لها فيه حيلة نافذة ولا غلبة يد ناصرة ولا لها منه منعة