للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأقول مستعينًا بالله، ومتكلًا عليه: إن هذا السؤالَ من أشدِّ الأسئلة إشكالًا، وأقواها إعضالًا؛ لأنه انقضى زمن النبوةِ، وأيامُ نزول الوحي من السماء، ولم تحدث مسألةٌ عائلةٌ إنما حدث العولُ في زمن الصحابة (١) فاختلفوا، وليسوا بملومينَ فإن تزاحُم الفرائضِ التي أهلُها يرثون جميعًا ولا يُسْقِطُ بعضُهم بعضًا قبلَ ذلك التزاحُم إذا قلنا أنَّه يرثُ بعضُهم ويُسْقِطُ بعضٌ عند التزاحمِ كان هذا الإسقاطُ لا دليلَ عليه إلا مجرَّدُ الرأي ولا يخفى أن إبطالَ ميراثِ وارثٍ وأثبتَ اللهُ ميراثَه مع كل وارثٍ من المزاحمينَ له بمجرَّد اجتماعِهم على الميراثِ اجتماعًا زادتْ به أجزاءُ فرائضِهم على أجزاء التركةِ. كما لم يدلُّ عليه دليل لا ترتضيه قلوبُ المتورِّعين، ولا تطمئنُّ به خواطرُ المتقيَن ولا تميلُ إليه عقولُ المجتهدين.

وانظر إلى كل مسألةٍ من مسائل العولِ فإنك تجدُ جميعَ من فيها وارثًا غيرَ ساقطٍ، فمن قال أن البعضَ منهم وارثٌ عند التزاحم والبعضَ الآخرَ ساقِطٌ به فهو محتاجٌ إلى دليل يدلُّ على إسقاطِ ذلك الوارثِ، لا سيما بعد الاتفاقِ على إثباتِ ميراثِه في تلك الفريضةِ، فإن جاء بدليل قبِلْناه، وإن لم يأتِ بدليل إلا مجرَّدَ [٣ب] ما يتخيَّلُه من أن التزاحمُ مسوِّغٌ لجعل البعض وارِثًان والبعضِ الآخر ساقطًا فهذا التخيلُ ليس بدليل وهكذا ما قاله بعضُ المانعينَ (٢) للعَوْلِ من أنه ليس في المالِ نصفٌ ونصفٌ وثلثٌ. ذهب


(١) روي عن ابن عباس أنه قال في زوجة وأخت وأمٍّ: من شاء باهلتهُ أن المسائل لا تعول إنّ الذي أحصى رمل عالج عددًا أعدلُ من أنه يجعل في مالٍ نصفًا، ونصفًا وثلثًا، هذا نصفان ذهبا بالمال، فأين موضع الثلث؟ فسمِّيت هذه المسألة مسألة المباهلة لذلك، وهي أول مسألةٍ عائلة حدثت في زمن عمر رضي الله عنه، فجمع الصحابة للمشورة، فقال العباس: أرى أن نقسم المال بينهم على قدر سهامهم، فأخذ به عمر رضي الله عنه واتبعه الناس على ذلك .. ".
"المغني" (٩/ ٢٨) "موسوعة فقه عمر رضي الله عنه" (ص ٧٣).
(٢) وهو قول ابن عباس رضي الله عنه.
أخرج البيهقي في "السنن" (٦/ ٢٥٣) وسعيد بن منصور في سننه (١/ ٤٤) روى الزهري، عن عبد الله بن عتبة قال: لقيت زفر بن أوس البصري فقال: نمضي على عبد الله بن عباس نتحدث عنده فأتيناه فتحدثنا عنده فكان من حديثه، أنَّه قال: سبحان الله الذي أحصى رمل عالجٍ عددًا، ثم يجعل في مال نصفًا، ونصفا، وثلثًا، ذهب النصفان بالمال، فأين موضع الثلث؟ وأيم الله لو قدَّموا ما قدم الله وأخَّروا ما أخر الله، ما عالت فريضة أبدًا فقال زفر: فمن الذي قدمه الله ومن الذي أخَّره الله؟ فقال: الذي أهبطه من فرض إلى فرض فذلك الذي قدمه الله والذي أهبطه من فرض على ما بقي، فذلك الذي أخَّره الله؟ فقال: الذي أهبطه من فرض إلى فرض فذلك الذي قدمه الله، والذي أهبطه من فرض إلى ما بقي، فذلك الذي أخَّره الله. فقال زفر: فمن أوَّل من أعال الفرائض؟ قال عمر بن الخطاب فقلت: ألا أشرت عليه؟ فقال: هِبته وكان امرأ مهيبًا.
قال ابن قدامة في "المغني" (٩/ ٢٩): قوله من أهبطه من فريضة إلى فريضة فذلك الذي قدَّمه الله. يريد أنَّ الزوجين والأمِّ، لكل واحد منهم فرض ثم يحجب إلى فرض آخر لا ينقص منه، وأما ما أهبطه من فرض إلى ما بقي، قلَّ أو كثر فكان مذهبه، أنَّ الفروض إذا ازدحمت ردَّ النقص على البناتِ والأخوات.