للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بقلبه، لكن لم يتكلم بموجبه -إن فرقتم في الحكم بين هذه المسائل- فما وجه الفرق مع أن ظاهر الحديث لا يقتضي التفرقة؟، وإن كان المراد من الحديث الخاطر الذي يمر على القلب لا يستقر فيه، ولا يريده الإنسان، فما هو الحرج المرفوع المعفو لهذه الأمة دون غيرها؟

وما معنى قول من قال من السلف في قوله: {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} (١) الآية. حيث قال: إنها أرجى آية في القرآن (٢)؟


(١) [البقرة: ٢٦٠].
ذكر ذلك صاحب "الجامع لأحكام القرآن" (٣/ ٢٩٦): ثم قال: "اختلف الناس في هذا السؤال هل صدر من إبراهيم عن شك أم لا؟ فقال الجمهور: لم يكن إبراهيم عليه السلام شاكًا في إحياء الله الموتى قط، وإنما طلب المعاينة وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به.
وقال القرطبي في تفسيره (٣/ ٣٠٠): {قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} أي سألتك ليطمئن قلبي بحصول الفرق بين المعلوم برهانًا والمعلوم عيانًا والطمأنينة: اعتدال وسكون، فطمأنينة الأعضاء معروفة، كما قال عليه السلام: "ثم اركع حتى تطمئن راكعًا" الحديث، وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد، والفكر في صورة الإحياء غير محظور كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها، إذ هي فكر فيها عبر، فأراد الخليل أن يعاين فيذهب فكره في صورة الإحياء.
وقال الرازي في تفسيره (٧/ ٤٠): أما قوله تعالى: {قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} فاعلم أن اللام في (ليطمئن) متعلق بمحذوف. والتقدير: سألك ذلك إرادة طمأنينة القلب. قالوا، والمراد منه أن يزول عنه الخواطر التي تعرض للمستدل، وإلا فاليقين حاصل على كلتا الحالتين.
(٢) يشير إلى موقف عمر بن الخطاب من صلح الحديبية، فذهب عمر رضي الله عنه إلى الصديق رضي الله عنه، فقال: يا أبا بكر، أليس برسول الله؟ قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟!! فقال أبو بكر: يا عمر، الزم غرره -طريقته- فإني أشهد أنه رسول الله، فقال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله.
وكأن الفارق لما يزل في نفسه بعض الحرج في قبول هذا الشرط، فرأى أن يستبين من الرسول وجه الحق وأن يسمع منه، فأتى رسول الله وقال له: ألست برسول الله؟ قال: "بلى"، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: "بلى"، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: "بلى"، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال الرسول: "أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره، ولن يضيعني".
"السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة" (٢/ ٣٣٤) للدكتور محمد بن محمد أبو شهبة.