كتاب قصة الحضارة

في عمق، ولكن لحن "هبنا سلاما" دليل على القوة لا على هبة السلام. تلك ردود فعل صريحة ليس لها كبير قيمة. ولن يتذوق القداس بمقام B الصغير تذوقاً كاملا غير أولئك الذين توافر لهم شئ آخر فضلا عن التربية المسيحية التي لم تفقد نغماتها التوافقية العاطفية، وهو القدرة الفنية على أن يميزوا ويستمتعوا بما في اللحن من بناء، ونغيمات، وصنعة، وبما استعمله الملحن فيه من موارد منوعة، وبما في تأليف الأوركسترالي من تعقيد، وبتكييف الأفكار الرئيسية في الموسيقى وفي أفكار النص.

وقد انتقد بعض الموسيقيين المحترفين باخ أثناء حياته. ففي ١٧٣٧ نشر يواهان أدولف شايبي (الذي أصبح فيما بعد قائد الأوركسترا لملك الدنمرك) خطاباً غفلا من من التوقيع امتدح فيه باخ عازفاً على الأرغن، وأشار إلى أن "هذا الرجل العظيم يكون محط إعجاب الأمم كلها لو كان أسلس من هذا، ولو لم تكن ألحانه مفتعلة لما فيها من ضجيج واختلاط، ولو لم يحجب جمالها الاسراف في الصنعة (٦٠). وبعد عام جدد شايبي هجومه فقال "إن ألحان باخ الكنسية تزداد افتعالا وبطئاً، وهي تقصر عن ألحان تليمان وجراون في الامتلاء بالاقتناع المؤثر أو التأمل الفكري (٦١). وكان شايبي قد حاول الحصول على منصب عازف الأرغن في ليبزج وعلق باخ على عزفه الذي أداه على سبيل الاختبار تعليقاً في غير مصلحته، وهجاه في إحدى كنتاتاته؛ ولعل نقد شايبي لم يخل من غل. ولكن شبيتا، أشد المعجبي بباخ حماسة، ينبئنا أن الكثيرين من معاصري شايبي شاطروه آراءه (٦٢). وربما كان بعض نقاده يمثلون انتفاض الجيل الجديد في ألمانيا على الموسيقى الطباقية التي بلغت عند باخ من التفوق ما لم يترك بعده مجالا لشئ غير التقليد، وقد شهد القرن العشرين انتفاضاً كهذا على السمفونية.

ولعل شايبي كان مؤثراً هاندل على باخ، ولكن هاندل كان قد خسرته ألمانيا وكسبته إنجلترا، فشق على ألمانيا بالطبع أن تقارن بينه وبين باخ. فإذا عقدت هذه المقارنة كان هدفها دائماً تفضيل هاندل (٦٣). وقد أعرب بيتهوفن عن الرأي الألماني حين قال، "إن هاندل أعظمنا جميعاً" (٦٤).