للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأصل " التأله " التعبد، والتعبد آخر مراتب الحب، يقال: عبده الحب وتيمه إذا ملكه وذلله لمحبوبة. فالمحبة حقيقة العبودية، وهل تمكن الإنابة بدون المحبة والرضا والحمد والشكر والخوف والرجاء؟ وهل الصبر في الحقيقة إلا صبر المحبين؟ (وهل التوكل إلا توكل المحبين (١)، فإنه إنما يتوكل علي المحبوب في حصول محابه ومراضية.

وكذلك الزهد في الحقيقة هو زهد المحبين فانهم يزهدون فيما سوي محبوبهم لمحبته، وكذلك الحياء في الحقيقة إنما هو حياء المحبين، فانه يتولد من بين الحب والتعظيم، وأما ما لا يكون عن محبة فهو خوف محض " (٢).

وهكذا في سائر أعمال القلب التي لا يكون العبد شاهدا أن لا اله إلا الله بدونها.

وقد جعل الله تعالى إخلاص المحبة فرقانا بين المؤمنين والكافرين، فمن أشرك مع الله غيره في المحبة وسواه به فهو المشرك المتخذ من دون الله ندا معبودا، فضلا عمن خلا قلبه من محبة الله ورسوله ودينه بالمرة وكره ذلك، فهذا كافر كفر إبليس وفرعون، مهما كان في قلبه من " تصديق " مجرد.

يقول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ [البقرة:١٦٥]

فأخبر إن من احب من دون الله شيئا - كما يحب الله تعالى - فهو ممن اتخذ من دون الله أندادا، فهذا ند في المحبة لا في الخلق والربوبية، فان أحدا من أهل الأرض لم يثبت هذا الند في الربوبية - بخلاف ند المحبة، فان اكثر أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أندادا في الحب والتعظيم.

وهذه هي التسوية المذكورة في قوله تعالى حكاية عنهم وهم في النار يقولون لآلهتهم وأندادهم وهي محضرة معهم في العذاب: تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: ٩٧ - ٩٨]، ومعلوم انهم لم يسووهم برب العالمين في الخلق والربوبية، وإنما سووهم به في المحبة والتعظيم " والطاعة والتشريع ".

وهذا أيضا هو العدل المذكور في قوله تعالى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ [الأنعام:١] أي يعدلون به غيره في العبادة التي هي المحبة والتعظيم .. " (٣).

وإذا كان تجريد المحبة وإخلاصها هو متعلق الشطر الأول من شطري الشهادة، وهو " شهادة إن لا اله إلا الله " - فان تجريد المتابعة والتحكيم للرسول صلى الله عليه وسلم هو تحقيق المحبة المتعلق بالشطر الآخر " شهادة إن محمدا رسول الله "، يقول الله تعالى:

قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران: ٣١ - ٣٢].

فهذه هي آية المحبة وهي آية المحنة، " قال بعض السلف: ادعي قوم محبة الله، فانزل الله آية المحنة: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ [آل عمران: ٣١] (٤).


(١) [٤٣٩٧] زيادة يقتضيها السياق.
(٢) [٤٣٩٨] ((المدارج)) (٣/ ٢٦).
(٣) [٤٣٩٩] ((المدارج)) (٣/ ٢١)
(٤) [٤٤٠٠] ((المدارج)) (ص ٢٢)

<<  <  ج: ص:  >  >>