حاكما حسيا وحاكما وهميا وحاكما عقليا، والمصيب من هؤلاء الحكام هو الحاكم العقلي، والنفس في أول الفطرة أشد إذعانا وإنقيادا للقبول من الحاكم الحسي والوهمي، لأنهما سبقا في أول الفطرة إلى النفس وفاتحاها بالإحتكام عليها، فألفت احتكامهما وأنست بهما قبل أن أدركها الحاكم العقلي، فاشتد عليها الفطام عن مألوفها والإنقياد لما هو كالغريب من مناسبة جبلتها، فلا تزال تخالف حاكم العقل وتكذبه وتوافق حاكم الحس والوهم وتصدقهما إلى أن تضبط بالحيلة التي سنشرحها في الكتاب.
وإن أردت أن تعرف مصداق ما تقوله في تخرص هذين الحاكمين واختلالهما، فانظر إلى حاكم الحس كيف يحكم إذا نظرت إلى الشمس عليها بأنها في عرض مجر، وفي الكواكب بأنها كالدانير المنثورة على بساط أزرق، وفي الظل الواقع على الأرض للأشخاص المنتصبة بأنه واقف بل على شكل الصبي في مبدأ نشئه بأنه واقف، وكيف عرف العقل ببراهين لم يقدر الحس على المنازعة فيها، إن قرص الشمس أكبر من كرة الأرض بأضعاف مضاعفة، وكذلك الكواكب، وكيف هدانا إلى أن الظل الذي نراه واقفا هو متحرك على الدوام لا يفتر، وأن طول الصبي في مدة النشء غير واقف بل هو في النمو على الدوام والإستمرار، ومترق إلى الزيادة ترقيا خفي التدريج يكل الحس عن دركه ويشهد العقل به.