للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإن ذلك لو كان منامًا لما كان فيه فتنة للضعفاء، ولا استعبده الأغبياء.

ولأن الدواب لا تحمل الأرواح وإنما تحمل الأجسام، وقد تواترت الأخبار بأنه أسري به على البراق.

فإن قلت: ما الحكمة في كونه تعالى جعل الإسراء ليلًا؟

أجيب: بأنه إنما جعل ليلًا تمكينًا للتخصيص بمقام المحبة؛ لأنه تعالى اتخذه -صلى الله عليه وسلم- حبيبًا وخليلًا، والليل أخص زمان للمحبين لجمعهما فيه، والخلوة


قال عياض وتبعه غيره: الحق والصحيح أنه إسراء بالجسد في القصة كلها، وتدل عليه الآية نصًا، وصحيح الأخبار إلى السموت استفاضة، ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل إلا عند الاستحالة، وليس في الإسراء بجسده حال يقظته استحالة تؤذن بتأويل، إذ لو كان منامًا لقال بروح عبده ولم يقل بعبده، وقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: ١٧] الآية، أي: ما عدل عن رؤية ما أمر به من عجائب الملكوت، وما جاوزها لصراحة ظاهره في أنه بجسده يقظه؛ لأنه أضاف الأمر إلى البصر، وهو لا يكون إلا يقظة بجسده، بشهادة لقد رأى من آيات ربه الكبرى، ولو كان منامًا لما كانت فيه آية ولا معجزة خارقة للعادة، دالة على صدقه وإن كانت رؤيا الأنبياء وحيًا، وليس فيها من الأبلغية وخرق العادة ما فيه يقظة على أن ذلك إنما يعرف من صدقه وصدق خبره، "وإن ذلك لو كان منامًا لما كان فيه فتنة للضعفاء" الذين كانوا أسلموا فارتدوا فوقعوا في فتنة، أي: بلية عظيمة توقعهم في العاب لردتهم وتكذيبهم وإنكارهم لخبر الصادق بما هو خارق للعادة، "ولا استبعده الأغبياء": جمع غبي بمعجمة، أي: الكفار ولا كذبوه، فيه؛ لأن مثل هذا من المنامات لا ينكر، بل لم يكن منهم ذلك إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن إسرائه بجسده وحال يقظته؛ "ولأن الدواب لا تحمل الأرواح وإنما تحمل الأجسام، وقد تواترت الأخبار، بأنه أسري به على البراق" وهو دابة، فوجب كونه بالجسد والروح معًا.
"فإن قلت ما الحكمة في كونه تعالى جعل الإسراء ليلًا،" مع أن غالب الفرائض كالصوم والجهاد والصبح والظهر والعصر والابتغاء من فضل الله، إنما هو بالنهار، وإن وقع جهاد ليلًا فنادر لنحو غارة، وفيه الصلاة الوسطى، والصوم الذي قال الله فيه: "كل عمر ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"، ومن ثم صحح الشرف المناوي أنه أفضل من الليل، وصحح غيره تفصيل الليل.
"أجيب بأنه إنما جعل ليلًا تمكينا للتخصيص بمقام المحبة؛ لأنه تعالى أتخذه عليه السلام حبيبًا وخليلًا"، فجمع له من بين المقامين، وهذا دليل لما أفهمه قوله بمقام المحبة، "والليل أخص زمان للمحبين" بفتح الباء المشددة تثنية محب، أي: أولى زمان يلخلو فيه

<<  <  ج: ص:  >  >>