أسمر، رقيق الشعر، مُوفَّر الِّلمَّة، خفيف اللحية، رحب الجبهة، أقنى بيِّن القنا، كأن عينيه لسانان ناطقان، يخلط أبَّهةَ الأملاك بزيِّ النسَّاك، تقبله القلوب، وتتبعه العيون، يُعرف الشرف في تواضعه، واللبُّ في مشيته. فما ملكت نفسي أن نهضت في أثره، سائلا عن خبره. وسبقني فتحرَّم بالطَّواف. فلما سبع قصد للمقام فركع، وأنا أرعاه ببصري ثم نهض منصرفا. فكأن عينا أصابته، فكبا كبوة دَميتْ لها إصبعه، فقعد لها القُرفصاء. فدنوت منه متوجعا لما ناله، متصلا به أمسح رجله من غبار التُّراب، فلم يمتنع عليَّ، ثم شققت حاشية ثوبي، فعصبت بها إصبعه. وما يُنكر ذلك، ولا يدفعه. ثم نهض متوكئا عليَّ، فأنقَدْت له أماشيه، حتى أتى دارا بأعلى مكة. فابتدره رجلان تكاد صدورهما تنفرج من هيبته، ففتحا له الباب، واجتذبني. فدخلت بدخوله فخلَّى يدي، وأقبل على القبلة فصلى ركعتين أوجز فيهما في تمام. ثم استوى في صدر مجلسه، فحمد الله وأثنى عليه، وصلَّى على النبيِّ صلى الله عليه وسلم أتمَّ صلاة وأطيبها. ثم قال: لم يَخفَ عليَّ مكانك منذ اليوم، ولا فعلك بي. فمن تكون يرحمك الله؟ قلت: شبيب بن شيبة التَّميُّمي. قال: الأهتميُّ؟ قلت: نعم. قال: فرحَّب وقرَّب ووصف قومي بأبين بيان، وأفصح لسان. فقلت له: أنا أجِلُّك " أصلحك الله " عن المسألة، وأحبُّ المعرفة. فتبسَّم وقال: لطف اهل العراق، وأنا عبد الله ابن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. فقلت: بأبي أنت وأمي، ما اشبهك بنسبك، وأدلَّك على منصبك! ولقد سبق الى قلبي من محبَّتك مالا أبلغه بوصفي لك. قال: فاحمد الله يا أخا بني تميم، فإنا قوم إنما يُسعد الله بِّحبنا من أحبَّه، ويشقى ببغضنا من أبغضه. ولن يصل الإيمان إلى قلب إحدكم حتى يحب الله ورسوله. ومهما ضَعُفنا عن جزائه قويَ اللهُ على أدائه. فقلت له: أنت توصف بالعلم، وأنا ممَّن حملته، وأيام الموسم ضيقة، وشُغل أهل مكة كثيرٌ. وفي نفسي أشياء أُحبُّ أن أسأل عنها؛ أفتأذن فيها جُعلتُ فداك؟ قال: نحن من أكثرالناس مستوحشون، وأرجو أن تكون للسرِّ موضعا، وللأمانة راعيا. فإن كنت كما رجوت فافعل. قال: فقدّمت من وثاق القول والأيمان ما سكن إليه. فتلا قول الله تعالى:) قُل أيُّ شيء أكبرُ شهادةً قلِ اللهُ شهيدٌ بَيني وبينكم (. ثم