للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الإلف بالمحبّة، وكلّما كان ذلك الإلف أشدّ كانت النّفرة عمّا سواه أشدّ، لأنّ المانع عن حضور المحبوب مكروه، فلا يزال يتعاقب محبة الله والتنفر عما سواه عن القلب، وبالآخر يصير القلب نفورا عمّا سوى الله، والنفرة توجب الإعراض عمّا سوى الله، فيصير ذلك القلب مستنيرا بأنوار القدس مستضيئا بأضواء عالم العظمة فانيا عن الحظوظ المتعلّقة بعالم الحدوث، وهذا مقام عليّ الدّرجة، وليس له في هذا العالم إلّا العشق الشديد على أيّ شيء كان.

إن قيل قوله يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ «١» يشتمل على حكمين:

أحدهما أنّ حبّ الكفار للأنداد مساو لحبّهم له تعالى مع أنّ الله تعالى حكى عنهم أنّهم قالوا ما نعبدهم إلّا ليقرّبونا إلى الله زلفى. وثانيهما أنّ محبة المؤمنين له تعالى أشدّ من محبتهم، مع أنّا نرى اليهود يأتون بطاعات شاقة لا يأتي بشيء منها أحد من المؤمنين ولا يأتون بها إلّا لله تعالى، ثم يقتلون أنفسهم حبّا له تعالى.

قلت الجواب عن الأول أنّ المعنى يحبّونهم كحبّ الله في الطاعة لها والتعظيم، فالاستواء في هذا القول من المحبة لا ينافي ما ذكرتموه.

وعن الثاني أنّ المؤمنين لا يضرعون إلّا إليه بخلاف المشركين فإنّهم يرجعون عند الحاجة إلى الأنداد. وأيضا من أحبّ غيره رضي بقضائه فلا يتفرق «٢» في ملكه، فهؤلاء الجهّال قتلوا أنفسهم بغير إذنه. وأمّا المؤمنون فقد يقتلون أنفسهم بإذنه كما في الجهاد، وأيضا إنّ المؤمنين يوحّدون ربّهم والكفار يعبدون مع الصّنم أصناما فتنقص محبّة الواحد. أمّا الإله الواحد فينضم محبة الجميع إليه، انتهى ما قال الإمام الرازي. وفي شرح القصيدة الفارضية المحبّة ميل الجميل إلى الجمال بدلالة المشاهدة كما ورد (إنّ الله جميل يحبّ الجمال) «٣»، وذلك لأنّ كلّ شيء ينجذب إلى أصله وجنسه وينتزع «٤» إلى أنسه ووصله. فانجذاب المحبّ إلى جمال المحبوب ليس إلّا لجمال فيه.

والجمال الحقيقي صفة أزلية لله تعالى شاهدة في ذاته أوّلا «٥» مشاهدة علمية «٦»، فأراد أن يراه في صنعه «٧» مشاهدة عينية، فخلق العالم كمرآة شاهد فيه عين جماله عيانا. وإليه أشار صلى الله عليه وآله وسلم بقوله (كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق) «٨» الحديث.

فالجميل الحقيقي هو الله سبحانه وكلّ جميل في الكون مظهر جماله. ولما خلق الله الإنسان على صورته جميلا بصيرا فكلّما شاهد جميلا انجذب أحداق بصيرته إليه وامتدّ نحوه أعناق سريرته، وهذا الانجذاب هو الحبّ الأخصّ أن ظهر من مشاهدة الروح جمال الذات في عالم الجبروت، والخاص إن ظهر من مطالعة القلب جمال الصّفات في عالم الملكوت، والعام إن ظهر من ملاحظة النفس جمال الأفعال في عالم


(١) البقرة/ ١٦٥
(٢) يتصرف (م)
(٣) صحيح مسلم، كتاب الايمان، باب تحريم الكبر، ح ١٤٧، ١/ ٩٣
(٤) ينزع (م)
(٥) أزلا (م)
(٦) عليه (م)
(٧) صفته (م)
(٨) ابن عراق الكناني (- ٩٦٣ هـ) تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الموضوعة، كتاب التوحيد، ح ٤٤، ١/ ١٤٨، وذكر أن ابن تيمية قال بأنه موضوع، بلفظ «كنت كنزا لا يعرف» وذكر عنه العجلوني، كشف الخفاء، ح ٢٠١٦، ٢/ ١٧٣، فقال:
والمشهور على الألسنة «كنت كنزا مخفيا ... » وهو واقع كثيرا في كلام الصوفية، واعتمدوه وبنوا عليه أصولا لهم.