للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المؤلفة في هذا الفن، ألا ترى ما أحسن ما رتّب إبراهيم عليه السلام كلامه مع المشركين حين سألهم أولا عمّا يعبدون سؤال مقرّر لا سؤال مستفهم، ثم أنحى على آلهتهم؛ فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع، وعلى تقليد آبائهم الأقدمين فكسره وأخرجه من أن يكون شبهة فضلا عن أن يكون حجة، ثم أراد الخروج من ذلك إلى ذكره الإله الذي لا تجب العبادة إلا له، ولا ينبغي الرجوع والإنابة إلا إليه، فصوّر المسألة في نفسه دونهم، بقوله: فإنهم عدو لي

على معنى إني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو وهو الشيطان؛ فاجتنبتها، وآثرت عبادة من الخير كله في يده، وأراهم بذلك أنها نصيحة ينصح بها نفسه؛ لينظروا فيقولوا: ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه، فيكون ذلك أدعى لهم إلى القبول لقوله، وأبعث على الاستماع منه، ولو قال فإنهم عدو لكم لم يكن بتلك المثابة، فتخلص عند تصويره المسألة في نفسه إلى ذكر الله تعالى؛ فأجرى عليه تلك الصفات العظام: من تفخيم شأنه وتعديد نعمه مر لدن خلقه وأنشأه إلى حين وفاته مع ما يرجى في الآخرة من رحمته؛ ليعلم من ذلك أنّ من هذه صفاته حقيق بالعبادة، واجب على الخلق الخضوع له، والاستكانة لعظمته؛ ثم خرج من ذلك إلى ما يلائمه ويناسبه، فدعا الله بدعوات المخلصين، وابتهل إليه ابتهال الأوّابين؛ لأن الطالب من مولاه إذا قدّم قبل سؤاله وتضرعه الاعتراف بالنعمة كان ذلك أسرع للإجابة، وأنجح لحصول الطّلبة، ثم أدرج في ضمن دعائه ذكر البعث ويوم القيامة، ومجازاة الله تعالى من آمن به واتقاه بالجنة ومن ضل عن عبادته بالنار، فجمع بين الترغيب في طاعته والترهيب من معصيته؛ ثم سأل المشركين عما كانوا يعبدون سؤالا ثانيا عند معاينة الجزاء، وهو سؤال موبّخ لهم مستهزىء بهم، وذكر ما يدفعون إليه عند ذلك من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال، وتمنى العودة؛ ليؤمنوا؛ فانظر أيها المتأمل إلى هذا الكلام الشريف الآخذ بعضه برقاب بعض، مع احتوائه على ضروب من المعاني فيخلص من كل واحد منها إلى الآخر بلطيفة ملائمة، حتى كأنه أفرغ في قالب واحد، فخرج من ذكر الأصنام وتنفير أبيه وقومه من عبادتهم إياها مع ما هي فيه من التّعرّي عن صفات الإلهيّة حيث لا تضرّ ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع إلى ذكر الله تعالى فوصفه بصفات الإلهية فعظّم شأنه

<<  <  ج: ص:  >  >>