وأما القسم الثاني من الإيجاز فهو ما لا يحذف منه شيء، وذلك ضربان:
أحدهما: مأساوي لفظه معناه، ويسمى التقدير، والآخر: ما زاد معناه على لفظه، ويسمى الإيجاز بالقصر.
فأما الإيجاز بالتقدير فإنه الذي يمكن التعبير عن معناه بمثل ألفاظه وفي عدتها.
أما الإيجاز بالقصر فإنه ينقسم قسمين: أحدهما: ما دل لفظه على محتملات متعددة، وهذا يمكن التعبير عنه بمثل ألفاظه وفي عدتها، والآخر: ما يدل لفظه على محتملات متعددة، ولا يمكن التعبير عنه بمثل ألفاظه وفي عدتها، لا، بل يستحيل ذلك.
ولنورد الآن الضرب الأول الذي هو الإيجاز بالتقدير، فمما جاء منه قوله تعالى: قتل الإنسان ما أكفره. من أي شيء خلقه. من نطفة خلقه فقدره. ثم السبيل يسره. ثم أماته فأقبره. ثم إذا شاء أنشره. كلا لما يقض ما أمره
فقوله قتل الإنسان
دعاء عليه، وقوله ما أكفره
تعجب من إفراطه في كفران نعمة الله عليه، ولا نرى أسلوبا أغلظ من هذا الدعاء والتعجب، ولا أخشن مسّا، ولا أدل على سخط مع تقارب طرفيه، ولا أجمع للّائمة على قصر متنه، ثم إنه أخذ في صفة حاله من ابتداء حدوثه إلى منتهى زمانه، فقال من أي شيء خلقه
ثم بين الشيء الذي خلق منه بقوله من نطفة خلقه فقدره
أي: هيأه لما يصلح له ثم السبيل يسره
أي: سهّل سبيله وهو مخرجه من بطن أمه، أو السبيل الذي يختار سلوكه من طريقي الخير والشر، والأول أولى؛ لأنه تال لخلقته وتقديره، ثم بعد ذلك يكون تيسير سبيله لما يختاره من طريقي الخير والشر ثم أماته فأقبره
أي: جعله ذا قبر يوارى فيه ثم إذا شاء أنشره
أي: أحياه كلا
ردع للإنسان عما هو عليه لما يقض ما أمره
أي: لم يقض مع تطاول زمانه ما أمره الله به، يعني أن إنسانا لم يخل من تقصير قط، ألا ترى إلى هذا الكلام الذي لو أردت أن تحذف منه كلمة واحدة لما قدرت على ذلك، لأنك كنت تذهب بجزء من معناه، والإيجاز: هو ألّا يمكنك أن تسقط شيئا من ألفاظه.