للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكافرة قد نبذته وراء ظهرها بالمجاهرة والشقاق، وأخرى مذبذبة بينهما بالمخادعة والنفاق، وما اختصت به كلّ فرقة مما يسعدها ويشقيها، ويحظيها عند الله ويرديها، أقبل عليهم بالخطاب- وهو من الالتفات المذكور عند قوله جلّ ذكره إِيَّاكَ نَعْبُدُ- وهو فنّ من الكلام جزل، فيه هزّ وتحريك من السامع- كما أنك إذا قلت لصاحبك حاكيا عن ثالث لكما: إنّ فلانا من قصته كيت وكيت، فقصصت عليه ما فرط منه، ثم عدلت بخطابك إلى الثالث، فقلت: يا فلان! من حقّك أن تلزم الطريقة الحميدة في مجاري أمورك، وتستوي على جادّة السّداد في مصادرك ومواردك- نبهته بالتفاتك نحوه فضل تنبه، واستدعيت إصغاءه إلى إرشادك زيادة استدعاء، وأوجدته، بالانتقال من الغيبة إلى المواجهة هازّا من طبعه، ما لا يجده إذا استمررت على لفظ الغيبة. وهكذا الافتنان في الحديث والخروج فيه من صنف إلى صنف، يستفتح الآذان للاستماع، ويستهش الأنفس للقبول. وإنما كثر النداء في كتابه تعالى على طريقة يا أَيُّهَا النَّاسُ لاستقلاله بأوجه من التأكيد، وأسباب من المبالغة. كالإيضاح بعد الإبهام، واختيار لفظ البعيد وتأكيد معناه بحرف التنبيه.

ومعلوم أنّ كل ما نادى الله له عباده: من أوامره، ونواهيه، وعظاته، وزواجره، ووعده، ووعيده، واقتصاص أخبار الأمم الدارجة عليهم، وغير ذلك ... مما أنطق به كتابه- أمور عظام، وخطوب جسام، ومعان علّمهم أن يتيقّظوا لها، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها وهم عنها غافلون. فاقتضت الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ- أفاده الزمخشريّ-.

والمراد بالناس: كافّة المكلّفين- مؤمنهم وكافرهم- فطلب العبادة من المؤمنين طلب الزيادة فيها، والثبات عليها، ومن الكافرين، ابتداؤها. الَّذِي خَلَقَكُمْ أنعم عليكم بإخراجكم من العدم إلى الوجود «و» - خلق- الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي كي تتقون، كقوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] ، وقوله سبحانه الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: ٢] . وفي إيراد «لعلّ» تشبه طلبه تعالى برجاء الراجي من المرجوّ منه أمرا هيّن الحصول. فإنّه تعالى لما وضع في أيدي المكلفين زمام الاختيار، وطلب منهم الطاعة، ونصب لهم أدلّة عقليّة ونقليّة داعية إليها، ووعد، وأوعد، وألطف بما لا يحصى كثرة، لم يبق للمكلف عذر، وصار حاله في رجحان اختياره للطاعة مع تمكنه من المعصية كحال المترجي منه في رجحان اختياره لما يرتجي منه- مع تمكّنه من خلافه- وصار طلب الله تعالى لعبادته واتّقائه بمنزلة الترجّي- فيما ذكرناه-.

<<  <  ج: ص:  >  >>