للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وانتقل إلى صفةٍ هي الكونُ في كلِّ مكانٍ، فقد تغيَّر عندَك معبودُكَ، وانتقَل من لا مكانٍ إلى كلِّ مكانٍ. وهذا لا يَنْفَكُّ منه؛ لأنَّه إنْ زعَم أنَّه في الأزلِ في كل مكانٍ كما هو الآنَ، فقد أوجَب الأماكنَ والأشياءَ موجودةً معه في أزله، وهذا فاسدٌ (١).

فإن قيل: فهل يجوزُ عندَك أنْ ينتقلَ من لا مكانٍ في الأزَلِ إلى مكانٍ؟ قيل له: أما الانتقالُ وتغيُّرُ الحال، فلا سبيلَ إلى إطلاقِ ذلك عليه؛ لأنَّ كونَه في الأزلِ لا يُوجِبُ مكانًا، وكذلك نقلُه لا يُوجِبُ مكانًا، وليسَ في ذلك كالخلْق؛ لأنَّه كوَّنَ ما كونُه يُوجِبُ مكانًا مِن الخلق، ونُقْلتُه تُوجِبُ مكانًا، ويصيرُ مُنتَقِلًا من مكانٍ إلى مكان، واللهُ عزَّ وجلَّ ليس كذلك، لأنَّه في الأزَلِ غيرُ كائنٍ في مكانٍ، وكذلك نُقلَتُه لا تُوجِبُ مكانًا، وهذا ما لا تَقدِرُ العقولُ على دَفعِه. ولكنَّا نقولُ: استَوى من لا مكانٍ إلى مكانٍ. ولا نقول: انتقلَ. وإن كان المعنى في ذلك واحدًا، ألَا تَرَى أنّا نقول: له عرشٌ، ولا نقول: له سَرِيرٌ، ومعناهما واحدٌ؟ ونقول: هو الحكيمُ، ولا نقول: هو العاقلُ؟ ونقول: خليلُ إبراهيمَ، ولا نقول: صديقُ إبراهيمَ؟ وإنْ كان المعنى في ذلك كلِّه واحدًا، لا نُسَمِّيه ولا نَصِفُه ولا نُطْلِقُ عليه إلّا ما سمَّى به نفسَه، على ما تقدَّم ذكرُنا له من وصفِه لنفسِه، لا شريكَ له، ولا ندفعُ ما وصَف به نفسَه، لأنَّه دفعٌ للقرآن، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: ٢٢]، وليس مجيئُه حركةً ولا زوالًا ولا انتقالًا؛ لأنَّ ذلك إنَّما يكونُ إذا كان الجائي جسمًا أو جوهرًا، فلمّا ثبَت أنَّه ليس بجسمٍ ولا جوهرٍ، لم يجبْ أن يكونَ مجيئُه حركةً ولا نُقْلَةً، ولو اعتبرتَ ذلك بقولهم: جاءَت فلانًا قيامَتُه، وجاءَه الموتُ، وجاءَه المرضُ، وشِبهِ ذلك ممّا هو موجودٌ نازلٌ به، ولا مَجيءَ؛ لبانَ لكَ، وبالله العصمةُ والتوفيق.


(١) مختصر الصواعق المرسلة ص ٤٧٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>