خلاف رأيه في الإيضاح، وما حمل الزمخشري على إعادة الضمير إلى الشفا إلا أنه هو الذي كانوا عليه ولم يكونوا في الحفرة حتى يمتن عليهم بالإنقاذ من الحفرة، وقد علم أنهم كانوا صائرين إليها لولا الإنقاذ الرباني فبولغ في الامتنان بذلك ألا ترى إلى
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم:«الراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه»
وإلى قوله تعالى: أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ [التوبة: ١٠٩] فانظر كيف جعل تعالى كون البنيان على الشفا سببا مؤديا إلى انهياره في نار جهنم مع تأكيد ذلك بقوله سبحانه: هارٍ انتهى، ومنه يعلم ما في قول أبي حيان من أنه لا يحسن عوده إلا إلى الشفا لأن كينونتهم عليه هو أحد جزأي الإسناد فالضمير لا يعود إلا إليه لا على الحفرة لأنها غير محدث عنها ولا على النار لأنه إنما جيء بها لتخصيص الحفرة.
وأيضا فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة ومن النار، والإنقاذ منهما لا يستلزم الإنقاذ من الشفا فعوده على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى، نعم ما ذكره من أن عوده على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ظاهر بناء على أن الأصل أن يعود الضمير على المضاف دون المضاف إليه إذا صلح لكل منهما ولو بتأويل إلا أنه قد يترك ذلك فيعود على المضاف إليه إما مطلقا- كما هو قول ابن المنير- أو بشرط كونه بعضه أو كبعضه كقول جرير أرى مرّ السنين «أخذن» مني- فإن مرّ السنين من جنسها، وإليه ذهب الواحدي والشرط موجود فيما نحن فيه كَذلِكَ أي مثل ذلك التبيين الواضح يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أي دلائله فيما أمركم به ونهاكم عنه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي لكي تدوموا على الهدى وازديادكم فيه كما يشعر به كون الخطاب للمؤمنين أو صيغة المضارع من الافتعال وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ أمرهم سبحانه بتكميل الغير إثر أمرهم بتكميل النفس ليكونوا هادين مهديين على ضد أعدائهم فإن ما قص الله تعالى من حالهم فيما سبق يدل على أنهم ضالون مضلون، والجمهور على إسكان لام الأمر، وقرئ بكسرها على الأصل، وتكن إما من كان التامة فتكون أُمَّةٌ فاعلا وجملة يَدْعُونَ صفته ومِنْكُمْ متعلق- بتكن- أو بمحذوف على أن يكون صفة- لأمة- قدم عليها فصار حالا. وإما من كان الناقصة فتكون أُمَّةٌ اسمها، ويَدْعُونَ خبرها، ومِنْكُمْ إما حال من أمة أو متعلق بكان الناقصة، والأمة الجماعة التي تؤم أي تقصد لأمر ما، وتطلق على أتباع الأنبياء لاجتماعهم على مقصد واحد وعلى القدوة ومنه إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: ١٢٠] وعلى الدين والملة، ومنه إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف: ٢٢، ٢٣] وعلى الزمان، ومنه وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف: ٤٥] إلى غير ذلك من معانيها، والمراد من الدعاء إلى الخير الدعاء إلى ما فيه صلاح ديني أو دنيوي فعطف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه في قوله سبحانه:
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ من باب عطف الخاص على العام إيذانا بمزيد فضلهما على سائر الخيرات كذا قيل، قال ابن المنير: إن هذا ليس من تلك الباب لأنه ذكر بعد العام جميع ما يتناوله إذ الخير المدعو إليه إما فعل مأمور أو ترك منهي لا يعدو واحدا من هذين حتى يكون تخصيصهما بتميزهما عن بقية المتناولات، فالأولى أن يقال فائدة هذا التخصيص ذكر الدعاء إلى الخير عاما ثم مفصلا، وفي تثنية الذكر على وجهين ما لا يخفى من العناية إلا إن ثبت عرف يخص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببعض أنواع الخير وحينئذ يتم ما ذكر، وما أرى هذا العرف ثابتا انتهى، وله وجه وجيه لأن الدعاء إلى الخير لو فسر بما يشمل أمور الدنيا وإن لم يتعلق بها أمر أو نهي كان أعم من فرض الكفاية ولا يخفى ما فيه، على أنه
قد أخرج ابن مردويه عن الباقر رضي الله تعالى عنه قال:«قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ثم قال: الخير اتباع القرآن وسنتي»
وهذا يدل أن الدعاء إلى الخير لا يشمل الدعاء إلى أمور الدنيا.