صاحب القاموس لا ينتهض حجة على أنه معنى لغوي، وفي صحة الروايات كلام والبيت الذي أنشده ابن عطية لم يثبت عربيا وكونه بمعنى الحوت أطلق على الدواة مجازا بعلاقة المشابهة فإن بعض الحيتان يستخرج منه شيء أشد سوادا من النقس يكتب به لا يخفى ما فيه من السماجة فإن ذلك البعض لم يشتهر حتى يصح جعله مشبها به مع أنه لا دلالة للمنكر على ذلك الصنف بعينه، وكونه بمعنى الحرف مجازا عنها أدهى وأمر كذا قيل، وللبحث في البعض مجال وللقصاص هذا الفصل روايات لا يعول عليها ولا ينبغي الإصغاء إليها ثم إن استحقاق القلم للإعظام بالإقسام به إذا أريد به قلم اللوح الذي جاء في الأخبار أنه أول شيء خلقه الله تعالى أو قلم الكرام الكاتبين ظاهر، وأما استحقاق ما في أيدي الناس إذا أريد به الجنس لذلك فلكثرة منافعه ولو لم يكن له مزية سوى كونه آلة لتحرير كتب الله عز وجل لكفى به فضلا موجبا لتعظيمه. والضمير في قوله سبحانه وَما يَسْطُرُونَ أي يكتبون إما للقلم مرادا به قلم اللوح وعبر عنه بضمير الجمع تعظيما له أو له مرادا به جنس ما به الخط، فضمير الجمع لتعدده لكنه ليس بكاتب حقيقة بل هو آلة للكاتب فالإسناد إليه إسناد إلى الآلة مجازا، والتعبير عنه بضمير العقلاء لقيامه مقامهم وجعله فاعلا أو للكتبة أو الحفظة المفهومين من القلم أولهم باعتبار أنه أريد بالقلم أصحابه تجوزا أو بتقدير مضاف معه، ولا يخفى ما هو الأوجه من ذلك، وأما كونه لما وهي بمعنى من فتكلف بارد والظاهر فيها أنها إما موصولة أي والذي يسطرونه أو مصدرية أي وسطرهم ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ جواب القسم والباء الثانية مزيدة لتأكيد النفي، ومجنون خبر ما والباء الأولى للملابسة في موضع الحال والعامل مجنون وباؤه لا تمنع العمل لأنها مزيدة، وتعقبه ناصر الدين بأن فيه نظرا من حيث المعنى ووجه بأن محصله على هذا التقدير أنه انتفى عنك الجنون وقت التباسك بنعمة ربك، ولا يفهم منه انتفاء مطلق الجنون عنه صلّى الله عليه وسلم وهل المراد إلّا هذا وقيل عليه لا يخفى أنه وارد على ما اختاره هو أيضا أي وذلك لأن المعنى حينئذ انتفى عنك ملتبسا بنعمة ربك الجنون ولا يفهم منه انتفاؤه عنه عليه الصلاة والسلام في جميع الأوقات وهو المراد، وأجيب بأن تلك الحالة لازمة له صلّى الله عليه وسلم غير منفكة عنه فنفيه عنه فيها مستلزم لنفيه عنه دائما وسائر الحالات وتعقب بأن هذا متأت على كلا التقديرين لا اختصاص له بأحدهما دون الآخر، وأنت خبير بأنه فرق بينهما إذ يصير المعنى على تقدير كون العامل مجنون كما أشير إليه أنه انتفى عنك الجنون الواقع عليك حالة الالتباس المذكور، وهذا يدل على إمكان وقوعه في تلك الحالة بل على تحققه أيضا وهو معنى لاغ إذ كيف يتصور وجود الجنون ووقوعه وقت التباسه صلّى الله عليه وسلم بالنعمة، ومن جملتها الحصافة ولا يرد هذا على التقدير المختار إذ الانتفاء المفهوم حينئذ لا يكون واردا على الجنون المقيد بما ذكر وهو وإن كان مقيدا فيه أيضا لا ضير به لكون قيده لازما لذات المنفي عنه كما عرفت هذا، وقيل: إذا حمل الباء على السببية واعتبر الظرف لغوا يظهر عدم جواز تعلقه بما بعده من حيث المعنى:
ظهور نار القرى ليلا على علم ولهم في الجملة الحالية والحال إذا وقعت بعد النفي كلام ذكره الخفاجي وحقق أنه حينئذ إنما يلزم انتفاء مقارنة الحال لذي الحال لا نفيها نفسها فتدبر ولا تغفل. وجوز كون بِنِعْمَةِ رَبِّكَ قسما متوسطا في الكلام لتأكيده من غير تقدير جواب، أو يقدر له جواب يدل عليه الكلام المذكور، واستظهر هذا الوجه أبو حيان والتعرض لوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى معارج الكمال مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه صلّى الله عليه وسلم والإيذان بأنه تعالى يتم نعمته عليه ويبلغه في العلو إلى غاية لا غاية وراءها، والمراد تنزيهه