للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هَذَا الذهب تصرفه فِي مهماتك، فقطب وجهه وقال: لا حاجة لي فِيهِ. فقال: كانك تستقله؟ ونفض كُمَّه على سجادة الخطيب، فنزلت الدنانير، فقال: هذه ثلاثمائة دينار. فقام الخطيب خجلًا مُحْمرًّا وجهُهُ وأخذ سجادته ورمى الدنانير وراح، فَمَا أنسى عِزَّ خُرُوجِه، وَذُلَّ ذلك العلوي وهو يلتقط الدنانير من شقوق الحصير.

وقال الحافظ ابن ناصر: حَدَّثَنِي أَبُو زكريا التبريزي اللغوي قال: دخلت دمشق فكنت أقرأ على الخطيب بحلقته بالجامع كتب الأدب المسموعة له، وكنت أسكن منارة الجامع، فصعِد إليَّ وقال: أحببتُ أن أزورك فِي بيتك، فتحدَّثنا ساعة، ثُمَّ أخرج ورقةً وقال: الهدية مستحبَّة، اشتر بهذا أقلامًا ونهض.

قال: فإذا هِيَ خمسة دنانير مصرية، ثُمَّ إنه صعد مرة أخرى، ووضع نحوًا من ذلك، وكان إذا قرأ الحديث فِي جامع دمشق يسمع صوته في آخر الجامع، وكان يقرأ مُعْرَبًا صحيحًا.

وقال أَبُو سَعِد: سمعت على ستة عشر نفسًا من أصحابه سمعوا منه، سوى نصر اللَّه المصيصي، فإنه سمع منه بصور، وسوى يحيى بن علي الخطيب، سمع منه بالأنبار.

وقرأت بخط والدي: سمعت أَبَا مُحَمَّد بن الأبنوسي يقول: سمعت الخطيب يقول: كلما ذكرت فِي التاريخ عن رجلٍ اختلفَ فِيهِ أقاويل الناس فِي الجرح والتعديل، فالتعويل على ما أخّرت ذِكره من ذلك، وختمت به التَّرجمة.

وقال ابن شافع فِي "تاريخه": خرج الخطيب إِلَى الشام فِي صفر سنة إحدى وخمسين، وقصد صور وبها عز الدولة الموصوف بالكرم، وتقرَّب منه، فانتفع به، وأعطاه مالًا كثيرًا. انتهى إليه الحِفْظ والإتقان والقيام بعلوم الحديث.

وَقَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: سَمِعْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَحْكِي، عَنْ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ خَيْرُونٍ أَوْ غَيْرِهِ، أنَّ أَبَا بَكْرٍ الْخَطِيبَ ذَكَرَ أَنَّهُ لما حج شرب من ماء زمزم ثلاث شربات، وسأل الله تعالى ثلاث حَاجَاتٍ، أَخْذًا بِقَوْلِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ" ١، فَالْحَاجَةُ الْأُولَى أَنْ يحدِّث "بتاريخ بغداد" ببغداد، والثانية: أن يملي الحديث بجامع


١ حديث صحيح: أخرجه ابن ماجه "٣٠٦٢"، وأحمد في مسنده "٣/ ٣٥٧"، والبيهقي في السنن "٥/ ٢٠٢، ٢٤٨"، والدارقطني في سننه "٢/ ٢٨٩"، وانظر الصحيحة "٢/ ٥٧٢" للألباني.