وطالمَا أنَّ كتابَه «الصَّحيح» مَعنيٌّ فيه بالفقهِ وترجيح المعاني، اقتصرَ على الأرجحِ مِن حيث دلالتُه على المَطلوبِ دون الرَّاجحِ (١)، والله أعلم.
أمَّا عن المعارض الثَّاني: في دعوى (رشيد رضا) أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يقرَّ تميمًا رضي الله عنه على كلِّ حديثه، لمكاشفةِ الوحي له في ذلك، وفي هذا إبطال للثِّقة في باقيه .. إلخ:
فهذه دعوى مُبتناة على غير تريُّثٍ في تأمُّلِ الحديث، نَتاجَ تجافي صاحبِها عن أخبارِ الخوارقِ والغَرائبِ، أدَّى به إلى ردِّ هذا الحديث بمثلِ هذا الاعتراضِ الواهي؛ وإلَّا فهل يُعقَل أنْ يَنقُل النَّبي صلى الله عليه وسلم كَلامًا عن أحَدٍ مِن النَّاس ليستشهِدَ به على أمْرٍ غَيبيٍّ دينيٍّ كان يُخبِر به، ويجمَع له النَّاس، ويُشهِدهم عليه، ثمَّ هو في قرارةِ نفسِه غيرُ مُصَدِّقٍ به أصلًا ولا مُقِرٍّ له؟!
ويَعجبُ المرء مِن قولِ (رشيد رضا) أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم قد يُصدِّق الكاذب، في سياقِ كلامِه عن تصديقِ النَّبي صلى الله عليه وسلم لصحابيٍّ جليلٍ مثل تميمٍ الدَّاري!
ثمَّ يذهَبُ مَذهبًا بعيدًا حينَ يحمِلُ على الحديثِ، فيُؤدِّيه ذلك إلى الطَّعنِ بِراويه تميمٍ! وقد ثَبَتت صُحبَته رضي الله عنه، وحسُن إسلامُه، وزكَّاه عمر رضي الله عنه؛ هذا مع اعتِرافِ رشيدٍ بأنَّ أحدًا لم يذكُر فيه شبهةً، ومع ذلك بَقي رشيدٌ مُصِرًّا على الغَمزِ فيه بقولِه للقُرَّاء بعد كلِّ الفضائل فيه:« .. وستعلَمُ ما فيه!»، مدَّعيًا «أنَّ نفيَ النَّبي صلى الله عليه وسلم لبعضِ قول تميمٍ يُبطِل الثِّقة به كلِّه»!
إنَّ غايةَ ما أخبر به تميم رضي الله عنه النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَصْفُ ما جرى له مع مَن خاطبَه بالدَّجال، فلم يُحدِّد هو مكانَ الدَّجالِ ولا حيث خروجُه حتَّى يُقال: أنَّ الوحيَ كاشفَ النَّبي صلى الله عليه وسلم في غلطِ كلامِه!
(١) وكان غير البخاريِّ مِن العلماء مَن يذهب إلى كونِ الدَّجال هو ابن صيَّادٍ، وهم مع ذلك يُصحِّحونَ حديثَ الجسَّاسة، كابن بطَّال في «شرحه للبخاري» (١٠/ ٣٨٦)، وأبي العبَّاس القرطبي في «التذكرة» (ص/١٣٤٠)، وهو ظاهر كلامِ النَّووي في «شرحه لمسلم» (١٨/ ٤٦ - ٤٧)، والشَّوكانيِّ في «نيل الأوطار» (٧/ ٢٣٧ - ٢٤٢).