فِي غَيْرِ الدُّعَاءِ انْتَسَخَ مِنْهُ حُكْمُ الدُّعَاءِ وَلَا يَنْصَرِفُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الدُّعَاءِ إلَّا بِالْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ فَإِذَا اسْتَعْمَلَهُ مُسْتَعْمِلٌ فِي غَيْرِ الدُّعَاءِ فَقَدْ اسْتَعْمَلَهُ فِيمَا هُوَ مَوْضُوعٌ لَهُ عُرْفًا وَلَا حَرَجَ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَنْصَرِفُ بِصَرَاحَتِهَا لِلدُّعَاءِ وَتُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ فَلَيْسَ مَا فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَهَاهُنَا انْتَهَى مَا جُمِعَ مِنْ الْقَوَاعِدِ وَالْفُرُوقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
لِحُصُولِ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ لِلدَّاعِي كَدُعَاءِ أَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ وَالْجَمَاعَاتِ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ جَهْرًا لِلْحَاضِرِينَ فَقَدْ كَرِهَهُ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَجْتَمِعُ لِهَذَا الْإِمَامِ التَّقَدُّمُ فِي الصَّلَاةِ وَشَرَفُ كَوْنِهِ نَصَّبَ نَفْسَهُ وَاسِطَةً بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادِهِ فِي تَحْصِيلِ مَصَالِحِهِمْ عَلَى يَدِهِ بِالدُّعَاءِ فَيُوشِكُ أَنْ تَعْظُمَ نَفْسُهُ عِنْدَهُ فَيَفْسُدَ قَلْبُهُ وَيَعْصِيَ رَبَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يُطِيعُهُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ اسْتَأْذَنَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي أَنْ يَدْعُوَ لِقَوْمِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ بِدَعَوَاتٍ فَقَالَ لَا إنِّي أَخْشَى أَنْ تَشْمَخَ حَتَّى تَصِلَ إلَى الثُّرَيَّا إشَارَةً إلَى مَا ذُكِرَ وَيَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى كُلُّ مَنْ نَصَّبَ نَفْسَهُ لِلدُّعَاءِ لِغَيْرِهِ وَخَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الْكِبْرَ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَالْأَحْسَنُ لَهُ التَّرْكُ حَتَّى تَحْصُلَ لَهُ السَّلَامَةُ.
(وَالسَّبَبُ الرَّابِعُ) كَوْنُ مُتَعَلِّقِهِ مَكْرُوهًا فَيُكْرَهُ كَرَاهَةَ الْوَسَائِلِ لَا كَرَاهَةَ الْمَقَاصِدِ كَالدُّعَاءِ عَلَى اكْتِسَابِ الرِّزْقِ بِنَحْوِ الْحِجَامَةِ وَنَزْوِ الدَّوَابِّ وَالْعَمَلِ فِي الْحَمَّامَاتِ مِنْ الْحِرَفِ الدَّنِيئَاتِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الِاكْتِسَابِ بِغَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ كُلُّ دُعَاءٍ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى كَرَاهَتِهِ يُكْرَهُ كَرَاهَةَ الْوَسَائِلِ.
(وَالسَّبَبُ الْخَامِسُ) مَا جَرَى عَلَى أَلْسِنَةِ نَحْوُ الْمُتَحَدِّثِينَ فِي مَجَالِسِهِمْ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِمْ مَا أَقْوَى فَرَسَ فُلَانٍ أَبْلَاهَا اللَّهُ بَدَنِيَّة أَوْ سَبُع وَعَلَى أَلْسِنَةِ السَّمَاسِرَةِ فِي الْأَسْوَاقِ عِنْدَ افْتِتَاحِ النِّدَاءِ عَلَى السِّلَعِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِمْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى خَيْرِ الْأَنَامِ مِمَّا هُوَ خَبَرٌ فِي الْأَصْلِ أُرِيدَ بِهِ الدُّعَاءُ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَ مَالِكٌ كَمْ يَقُولُونَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الدُّعَاءِ وَالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ خَيْرٌ وَمَعْنَاهُ الدُّعَاءُ، وَكُلُّ مَا يَجْرِي أَيْ عَلَى لِسَانِ الْعَامَّةِ وَغَيْرِهِمْ هَذَا الْمَجْرَى وَلَا يُرِيدُونَ شَيْئًا مِنْ حَقِيقَتِهِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ بَلْ قَدْ أَشَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى تَحْرِيمِهِ فَقَالَ كُلُّ مَا يُشْرَعُ قُرْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ إلَّا قُرْبَةً لَهُ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ لَا عَلَى وَجْهِ التَّلَاعُبِ اهـ. قَالَ الْأَصْلُ وَكَلَامُنَا هُنَا إنَّمَا هُوَ فِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَنْصَرِفُ بِصَرَاحَتِهَا لِلدُّعَاءِ وَتُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ، وَأَمَّا مَا غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْعُرْفِ فِي غَيْرِ الدُّعَاءِ حَتَّى انْتَسَخَ مِنْهُ حُكْمُ الدُّعَاءِ وَصَارَ بِحَيْثُ لَا يَنْصَرِفُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الدُّعَاءِ إلَّا بِالْقَصْدِ وَالسُّنَّةِ فَلَا حَرَجَ عَلَى مُسْتَعْمِلِهِ فِي غَيْرِ الدُّعَاءِ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَعْمَلَهُ فِيمَا هُوَ مَوْضُوعٌ لَهُ عُرْفًا وَمِنْ ذَلِكَ «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تَرِبَتْ يَدَاك وَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ» لَمَّا تَعَجَّبَتْ مِمَّا لَمْ تَعْلَمْ مِنْ كَوْنِ الْمَرْأَةِ تُنْزِلُ الْمَنِيَّ كَمَا يُنْزِلُ الرَّجُلُ وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ» إذْ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا أَرَادَ أَذِيَّةَ عَائِشَةَ وَلَا غَيْرَهَا بِالدُّعَاءِ إذْ لَيْسَ مِنْ الْإِرْشَادِ مَا يَقْتَضِي الْإِضْرَابَ بِالدُّعَاءِ، وَإِنَّمَا اُسْتُعْمِلَ ذَلِكَ فِيمَا غَلَبَ بِالْعُرْفِ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الدُّعَاءِ فَيَكُونُ مُبَاحًا لَا مَكْرُوهًا؛ لِأَنَّ مَنْصِبَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنَزَّهٌ عَنْ الْمَكْرُوهَاتِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ بَلْ أَقَلُّ الْأَحْوَالِ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا مُبَاحًا؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا. اهـ.
قُلْت وَيُؤْخَذُ مِمَّا مَرَّ عَنْ الْأَصْلِ وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ أَنَّ لِكَرَاهَةِ الدُّعَاءِ سَبَبًا سَادِسًا مِمَّا يَعْرِضُ لَهُ فَيَقْتَضِي كَرَاهَتَهُ وَهُوَ كَوْنُهُ بِالْأَلْفَاظِ الْعَجَمِيَّةِ الصَّادِرَةِ مِمَّنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعَجَمِ الضَّلَالُ وَالْفَسَادُ فَيُكْرَهُ الدُّعَاءُ وَالرَّقْيُ بِهَا قَبْلَ مَعْرِفَةِ مَعْنَاهَا سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ فَتَنَبَّهْ لِذَلِكَ. هَذَا تَهْذِيبُ مَا قَالَهُ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْفَرْقِ وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ وَبِهِ يَتِمُّ مَا قَصَدْته مِنْ تَهْذِيبِ الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السُّنِّيَّةِ بِمَا وَفَّقَ اللَّهُ إلَيْهِ وَأَعَانَ عَلَيْهِ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالْفَوَائِدِ الْعَلِيَّةِ وَأَسْتَغْفِرُهُ تَعَالَى مِنْ كُلِّ قَوْلٍ لَا يُوَافِقُ الْعَمَلَ، وَمِنْ كُلِّ مَا ادَّعَيْته وَأَظْهَرْته مِنْ الْعِلْمِ بِدِينِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ التَّقْصِيرِ فِيهِ وَالزَّلَلِ، وَمِنْ كُلِّ خَطْرَةٍ دَعَتْنِي إلَى تَزَيُّنٍ وَتَصَنُّعٍ، فِي كِتَابٍ سَطَرْته أَوْ كَلَامٍ نَظَمْته أَوْ عِلْمٍ أَفَدْته حَتَّى أَدَّى إلَى التَّرَفُّعِ، وَأَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنِي وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا عِلْمنَا عَامِلِينَ وَلِوَجْهِهِ بِهِ مُرِيدِينَ، وَأَنْ لَا يَجْعَلَهُ وَبَالًا عَلَيْنَا، وَأَنْ يَضَعَهُ فِي مِيزَانِ الصَّالِحَاتِ إذَا رُدَّتْ أَعْمَالُنَا إلَيْنَا، إنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ رَءُوفٌ بِعِبَادِهِ رَحِيمٌ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يَوْمَ الدِّينِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ، وَبِفَضْلِهِ تَنْزِلُ الْبَرَكَاتُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى خَيْرِ مَوْلُودٍ، دَعَا إلَى أَفْضَلِ مَعْبُودٍ، مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْمُنْقِذِ مِنْ حَالِكِ الضَّلَالِ وَآلِهِ وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَكَانَ تَحْرِيرُ خَاتِمَتِهِ فِي بَلَدِ جمبن سمطرا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الرَّابِعِ مِنْ ثَانِي الثَّانِي مِنْ الرَّابِعِ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ مِنْ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ هِجْرَةِ سَيِّدِ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْبَشَرِ صَلَى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَم وَعَلَى آلِهِ وَمَنْ انْتَمَى إلَيْهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute