لِأَنَّهُ غَايَةٌ لِلْحُرْمَةِ بِالنَّصِّ فَيَكُونُ مَنْهِيًّا، وَلَا إنْهَاءَ لِلْحُرْمَةِ قَبْلَ الثُّبُوتِ. وَلَهُمَا قَوْلُهُ ﵊ «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ»
قَالَ: كُنْت جَالِسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ إذْ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَسَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ فَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ مَاتَ عَنْهَا أَوْ طَلَّقَهَا ثُمَّ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَأَرَادَ الْأَوَّلُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى كَمْ هِيَ عِنْدَهُ؟ فَالْتَفَتَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا؟ قَالَ: يَهْدِمُ الزَّوْجُ الثَّانِي الْوَاحِدَةَ وَالثِّنْتَيْنِ وَالثَّلَاثَ، وَاسْأَلْ ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: فَلَقِيت ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ عُمَرَ فِي نَحْوِهِ قَالَ: هِيَ عِنْدَهُ عَلَى مَا بَقِيَ، وَنَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ.
وَنُقِلَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ فَأَخَذَ الْمَشَايِخُ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِقَوْلِ شُبَّانِ الصَّحَابَةِ وَشُبَّانُ الْفُقَهَاءِ بِقَوْلِ مَشَايِخِ الصَّحَابَةِ وَالتَّرْجِيحُ بِالْوَجْهِ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ غَايَةٌ لِلْحُرْمَةِ) أَيْ لِأَنَّ الزَّوْجَ غَايَةٌ لِلْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَلَا تَحِلُّ لَهُ أَيْ مُطْلَقًا لَا بِنِكَاحٍ وَلَا بِمِلْكِ يَمِينٍ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَيَكُونَ: أَيْ الزَّوْجَ مَنْهِيًّا لِلْحُرْمَةِ، وَلَا إنْهَاءَ لِلْحُرْمَةِ قَبْلَ الثُّبُوتِ: أَيْ ثُبُوتَهَا فَاللَّامُ بَدَلُ الْإِضَافَةِ وَلَا ثُبُوتَ لَهَا إلَّا بَعْدَ الثَّلَاثِ فَلَا يَكُونُ مَنْهِيًّا قَبْلَهَا، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ التَّزَوُّجِ أَوْ قَبْلَ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي حَيْثُ تَعُودُ بِمَا بَقِيَ مِنْ التَّطْلِيقَاتِ.
قُلْنَا: قَدْ عَمِلْنَا بِالنَّصِّ وَجَعَلْنَاهُ مَنْهِيَّا لِلْحُرْمَةِ فِي صُورَةِ الْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ، لَكِنْ ثَبَتَ لَهُ وَصْفٌ آخَرُ بِنَصٍّ آخَرَ وَهُوَ إثْبَاتُ الْحِلِّ مُطْلَقًا قُلْنَا بِهِ وَتَرَكْتُمْ أَنْتُمْ الْعَمَلَ بِهِ وَهُوَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ آنِفًا.
وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ سَمَّاهُ مُحَلِّلًا، وَحَقِيقَتُهُ مُثْبِتُ الْحِلِّ كَالْمُحَرَّمِ وَالْمُسْوَدِّ وَالْمُبْيَضِّ وَغَيْرُهَا مُثْبِتُ الْحُرْمَةِ وَالسَّوَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَإِنْ قُلْت: تَقَدَّمَ آنِفًا أَنَّ مَحْمَلَ الْحَدِيثِ الشَّارِطِ لِلْحِلِّ لِلْعِلْمِ قَطْعًا أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُثْبِتٌ لِلْحِلِّ لَيْسَ مُتَعَلِّقُ اللَّعْنَةِ وَإِلَّا لَتَعَلَّقَتْ بِالْمُتَزَوِّجِ تَزْوِيجَ رَغْبَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ مُتَعَلِّقِ اللَّعْنَةِ عَلَى مَا قَالُوا شَارِطَ الْحِلِّ فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُثْبِتٌ لِلْحِلِّ الْجَدِيدِ شَرْعًا لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالْمُحَلِّلِ مُثْبِتَ الْحِلِّ بَلْ شَارِطَهُ.
قِيلَ: لَا شَكَّ أَنَّ الزَّوْجَ يَثْبُتُ بِهِ الْحِلُّ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ مُثْبِتِ الْحِلِّ، فَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ: لَعَنَ اللَّهُ مُثْبِتَ الْحِلِّ إذَا شَرَطَ الْحِلَّ، فَلَا يَكُونُ شَارِطُ الْحِلِّ مُرَادًا بِلَفْظٍ مِنْ التَّرْكِيبِ الْمَذْكُورِ بَلْ كُلُّهُ مُضْمَرٌ، فَفِيهِ حِينَئِذٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ مُثْبِتُ الْحِلِّ وَتَعْلِيقُ اللَّعْنَةِ بِهِ إذَا شَرَطَهُ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ أَنَّ مَحْمَلَهُ لَعْنَةُ الْمُحَلِّلِ إذَا شَرَطَهُ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحَلِّلِ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ هُوَ الشَّارِطُ لِلْحِلِّ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مُثْبِتًا لَهُ.
نَعَمْ يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا قِيلَ إنَّهُ لَمَّا جُعِلَ مُحَلِّلًا فِي صُورَةِ الْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ فَلَا يَلْزَمُ ثُبُوتُهُ فِي غَيْرِهَا.
وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ يُثْبِتُهُ فِيهَا بِدَلَالَتِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُحَلِّلًا فِي الْغَلِيظَةِ فَفِي الْخَفِيفَةِ أَوْلَى.
وَأَيْضًا بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ فِي صُورَةِ الْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ بِجَامِعِ كَوْنِهِ زَوْجًا لِأَنَّ صُورَةَ الْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ مَحِلٌّ وَالْمَحِلُّ لَا يَدْخُلُ فِي التَّعْلِيلِ، لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ لَانْسَدَّ بَابُ الْقِيَاسِ لِأَنَّ مَحِلَّ الْأَصْلِ غَيْرُ مَحِلِّ الْفَرْعِ.
وَأُورِدُ عَلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ حَيْثُ يُمْكِنُ وَلَا يُمْكِنُ هُنَا لِأَنَّ الْحِلَّ ثَابِتٌ فِيهِ، وَتَحْصِيلُ الْحَاصِلِ مُحَالٌ.
أُجِيبُ إنْ لَمْ يَقْبَلُ الْمَحِلُّ أَصْلَ الْحِلِّ يَقْبَلُ ثُبُوتَ وَصْفِ