للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:

نَفْسُ لَا كُنْتِ وَلَا كَانَ الْهَوَى ... رَاقِبِي الْمَوْلَى وَخَافِي وَارْهَبِي

ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: " عَلَى هَذَا فَلْيُغَنِّ مَنْ غَنَّى ".

فَتَأَمَّلُوا قَوْلَهُ: " بَلَغَنِي أَمْرٌ سَاءَنِي "، مَعَ قَوْلِهِ: أَتَتَمَجَّنُ فِي عِبَادَتِكَ؛ فَهُوَ مِنْ أَشَدِّ مَا يَكُونُ فِي الْإِنْكَارِ، حَتَّى أَعْلَمَهُ أَنَّهُ يُرَدِّدُ لِسَانُهُ أَبْيَاتَ حِكْمَةٍ فِيهَا عِظَةٌ، فَحِينَئِذٍ أَقَرَّهُ وَسَلَّمَ لَهُ.

هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ كَانَ فِعْلَ الْقَوْمِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ؛ لَمْ يَقْتَصِرُوا فِي التَّنْشِيطِ لِلنُّفُوسِ وَلَا الْوَعْظِ عَلَى مُجَرَّدِ الشِّعْرِ، بَلْ وَعَظُوا أَنْفُسَهُمْ بِكُلِّ مَوْعِظَةٍ، وَلَا كَانُوا يَسْتَحْضِرُونَ لِذِكْرِ الْأَشْعَارِ الْمُغَنِّينَ، إِذْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ طَلَبَاتِهِمْ، وَلَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْغِنَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي أَزَمَانِنَا شَيْءٌ، وَإِنَّمَا دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَهُمْ حِينَ خَالَطَ الْعَجَمُ الْمُسْلِمِينَ.

وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَرَافِيُّ فَقَالَ: " إِنَّ الْمَاضِينَ مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا يُلَحِّنُونَ الْأَشْعَارَ وَلَا يُنَغِّمُونَهَا بِأَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنَ النَّغَمِ؛ إِلَّا مِنْ وَجْهِ إِرْسَالِ الشِّعْرِ وَاتِّصَالِ الْقَوَافِي، فَإِنْ كَانَ صَوْتُ أَحَدِهِمْ أَشْجَنَ مِنْ صَاحِبِهِ؛ كَانَ ذَلِكَ مَرْدُودًا إِلَى أَصْلِ الْخِلْقَةِ، لَا يَتَصَنَّعُونَ وَلَا يَتَكَلَّفُونَ ".

هَذَا مَا قَالَ، فَلِذَلِكَ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى كَرَاهِيَةِ ذَلِكَ الْمُحْدَثِ، وَحَتَّى سُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ الْغِنَاءِ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ؟ فَقَالَ: " إِنَّمَا يَفْعَلُهُ الْفُسَّاقُ ".

وَلَا كَانَ الْمُتَقَدِّمُونَ أَيْضًا يَعُدُّونَ الْغِنَاءَ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ طَرِيقَةِ التَّعَبُّدِ

<<  <  ج: ص:  >  >>