يقول تعالى معرّضاً بأهل مكة: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} أَيْ طَغَتْ وَأَشِرَتْ، وَكَفَرَتْ نِعْمَةَ اللَّهِ فِيمَا أَنْعَمَ به عليهم من الأزراق، كما قال: {وَضَرَبَ الله مئلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِن كُلِّ مَكَانٍ - إلى قوله - فَأَخَذَهُمُ العذاب وَهُمْ ظَالِمُونَ}، ولهذا قال تعالى: {فتلك مساكنهم لهم تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَاّ قَلِيلاً} أَيْ دُثِرَتْ ديارهم فلا ترى إلاّ مساكنهم، وقوله تعالى: {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} أَيْ رَجَعَتْ خَرَابًا لَيْسَ فيها أحد، ثم قال تعالى مُخْبِرًا عَنْ عَدْلِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُهْلِكُ أَحَدًا ظالماً له، وإنما بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا} وَهِيَ مَكَّةُ {رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} فيه دلالة على أن النبي الأمي رَسُولٌ إِلَى جَمِيعِ الْقُرَى مِنْ عَرَبٍ وَأَعْجَامٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حولها}، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إليكم جميعا}، وتمام الدليل قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَاّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة أَوْ مُعَذِّبُوهَا عذابا شديداً} الآية، فأخبر تعالى أَنَّهُ سَيُهْلِكُ كُلَّ قَرْيَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وقد قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} فَجَعَلَ تَعَالَى بِعْثَةَ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ شَامِلَةً لِجَمِيعِ القرى لأنهم مَبْعُوثٌ إِلَى أُمِّهَا وَأَصْلِهَا الَّتِي تَرْجِعُ إِلَيْهَا، وثبت في الصحيحين عنه صلوات الله عليه وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: «بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ والأسود» ولهذا ختم به النبوة والرسالة، فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَلَا رَسُولَ، بَلْ شَرْعُهُ بَاقٍ بَقَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً} أَيْ أَصْلِهَا وَعَظِيمَتِهَا كَأُمَّهَاتِ الرَّسَاتِيقِ وَالْأَقَالِيمِ (حَكَاهُ الزمخشري وابن الجوزي وغيرهما وليس ببعيد كما قال ابن كثبير).
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute