فإن قلت: ما معنى قوله تعالى: {فَكَذَّبُوا} بعد قوله: {كَذَّبَتْ}؟
قلت: معناه: كذبوا فكذبوا عبدنا أي: كذبوه تكذيبا على عقب تكذيب، كلما مضى منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب. أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا، أي: لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأسا: كذبوا نوحا؛ لأنه من جملة الرسل.
{مَجْنُونٌ} هو مجنون. {وازْدُجِرَ} وانتهروه بالشتم والضرب والوعيد بالرجم في قولهم: {لَتَكُونَنَّ مِنَ المَرْجُومِينَ}[الشعراء: ١١٦]، وقيل: هو من جملة قيلهم، أي:
قوله:(أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا)، والفاعل الأول تعقيب، وعلى هذا للتسبيب.
الانتصاف: ومضى سؤال في قوله: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا} إلى قوله: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي}[سبأ: ٤٥] وأجاب الزمخشري: "إنه كقول القائل: أقدم فلان على الكفر فكر"، وأقول: إن الأول مطلق والثاني مقيد، وليس بتكرار، وهو كقوله:{فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} فإن تعاطيه وهو نفس "عقر"، لكنه ذكره من جهة عمومه، ثم من ناحية خصوصها امتهانًا.
وقلت: ومثله أيضًا قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}[البقرة: ٥٤] ولا شك أن ما سلكه المصنف أولًا فن بليغ يذهب إليه، نحو ما جاء في الحديث:"والأمثل فالأمثل".، وفي قولهم: وجاء القوم الأفضل فالأفضل، والأكرم فالأكرم، واستدعاه المقام لاستمرار تكذيبهم له، قومًا بعد قوم، مدة ألف سنة إلا خمسين عامًا، فوجب المصير إليه بخلاف تلك الأمثلة.
قوله:(وقيل: هو من جملة قيلهم) فيكون تتميمًا للمعنى الأول، كقوله تعالى:{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}[يوسف: ٨٦] وعلى الأول تكميل، لأن و {وازْدُجِرَ} حينئذ