قوله: (ألا ترى إلى ما عقَّبه به من قوله: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ} يعني: دلّ نسبةُ النِّسيان إليهم، وجعلُه سببًا للإذاقةِ على أن المشيئة المطلقةَ مقيَّدة بقيد الإلجاءِ والقَسْر، وأنَّ العلمَ الأزلي تابعٌ لاختيارهم.
انظر إلى هذا التَّعوُّج عن الجادَّةِ المستقيمةِ حيث أوقَعَ قولَه:{حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} المعبِّر عن العلم الأَزَليِّ المُستتبع لجميع الكائناتِ على وَفْقِه مسبّبًا عن استحبابِهم العَمَى على الهُدُى، وجعل الاستحبابَ مسبَّبًا عن اختيارِهم المعدوم.
والحقُّ ما قاله الإمامُ: أنَّ قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} الآية، جوابٌ عن قولهم:{فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ}؛ أي: هذا الذي جرى علينا ما جرى إلاَّ بسبَبَ تَرْكِ العَمَلِ، أمّا الإيمانُ فإنّنا مُوقنون بما أنكرنا ثَمّ، فارجعْنا حتَّى نَتلافى العملَ، فأُجيبوا بقوله:{وَلَوْ شِئْنَا} أي: أنّا لو أردنا الإيمان لهديناكم في الدُّنيا ولمّا لم نهدكم تبيَّن أنّا ما أردنا إيمانَكُم فلا نَرُدُّكم، فذُوقوا العذابَ المقدَّرَ عليكم بسَبب كَسْبِكُم، فلا ينفعُكم الآنَ شيء. عن بعضهم: لو عَلِمْناها أهلاً للهدى لهَدَيْنَاها.
وقلت: دلَّ على هذا الاستبدادِ صيغةُ التَّعظيمِ في {وَلَوْ شِئْنَا} وعلى أنَّ هذا جواب عن قول الكَفَرة، تَرتَّب قولُه:{فَذُوقُوا} عليه، أي: لما أَوْجَبْنا القولَ بأنّا نملأ جهنَّمَ من الجنَّةِ والنّاسِ أجمعين، وأنتُم من أولئك، فذُوقوا.
وأمّا معنى قولِه:{بِمَا نَسِيتُمْ} فما ذكره القاضي هذا النص تصريحٌ بعَدَم إيمانِهم