هذا حقٌ، وذلك باطلٌ، وأنى يُشبه هذا السحر (أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ)[الطور: ١٥]؟ ثم إن قولهم: إنه أضغاث أحلام، أي: تخاليطها، أفسد منه؛ لأن تشبهي النظم المعجز الفائق بالسحر أقربُ من ذلك، كقوله:"إن من البيان لسحرا"، لكن أين هذا من التخاليط: إنه (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)[هود: ١] ثم قولهم: إنه كلامٌ مفترى من عنده أبعد من ذلك؛ لأنهم لم يحرروا أنفسهم، ولم يدركوا أن قوى البشرية وإن استفرغت طوقها، لا تطيق على الإتيان بمثله:(فَاتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ)[هود: ١٣]؛ ولأن المفترى مبطل، وكلامه باطل، وهذا (لا يَاتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)[فصلت: ٤٢].
ثم قولهم: إنه قول شاعر، أبعد وأفسد؛ لأن الشعر: متخيلات ملفقة وتخرصاتٌ مزخرفةٌ تدعو إلى الهوى والشيطان، وهذا يدعو إلى الهدى وطاعة الرحمن:(وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ)[يس: ٦٩ - ٧٠]، وهذا الوجه أدل على التحير من حيث الحقيقة.
الراغب:(بل): للتدارك، وهو ضربان: ضربٌ يناقض ما بعده ما قبله لكن ربما يقصد لتصحيح الحكم الذي بعده، وإبطال ما قبله، قال تعالى:(إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ)[المطففين: ١٣ - ١٤]، أي: يس الأمر كما قال، بل جهلٌ، أو يقصد به تصحيح الأول، وإبطال الثاني، كقوله تعالى:(فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) إلى قوله: (فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلاَّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ)[الفجر: ١٥ - ١٧]، أي: ليس إعطاؤه من الإكرام، ولا منعه من الإهانة، لكن جهلوا وظلموا، حيثُ وضعوا المال في غير موضعه، والضرب الثاني: أن يكون (بل) مبيناً للحكم الأول وزائداً عليه بما بعده، نحو:(بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلْ افْتَرَاهُ)، فإنه نبه أنهم يقولون: أضغاثُ أحلام، ويزيدون على ذلك بأن