ولكن هرتزل لم يلبث أن تراجع عن هذا العرض بعدما تبين أن بريطانيا لن تتخلى عن قبرص، فاتجه بمساعيه مرة أخرى إلى الحكومة البريطانية التي حرص دائماً على إبقاء الأبواب مواربة معها، وأسفرت هذه المساعي عن عقد اجتماع في عام ١٩٠٢ بينه وبين جوزيف تشامبرلين، وزير المستعمرات البريطاني آنذاك، نوقشت خلاله خطط توطين اليهود في قبرص أو العريش. إلا أن الوزير البريطاني أبدى تَخوُّفه من أن الاستيطان اليهودي في قبرص قد يثير حفيظة سكان الجزيرة، وأغلبهم مسيحيون أرثوذكس ذوو أصول يونانية، وهو الأمر الذي قد يُفجِّر بدوره مشاكل مع كل من اليونان، التي تربطها بسكان الجزيرة وشائج قومية وتاريخية، وروسيا التي تُعَدُّ كنيستها الأرثوذكسية المرجع الروحي لهؤلاء السكان. وقد ألمح تشامبرلين إلى أن حكومته لا تقبل إحلال اليهود محل سكان مسيحيين لهم ارتباطات وثيقة بالعالم الأوربي، واقترح بدلاً من ذلك أن يكون توطين اليهود في "بقعة أخرى من الممتلكات البريطانية لا يوجد بها سكان مسيحيون بيض". ولا تخلو هذه النظرة العنصرية الصريحة من مغزى، فإذا كان فقراء اليهود في أوربا يشكلون فائضاً بشرياً ينبغي التخلص منه بتهجيره، فإن هذه العملية ينبغي ألا تتم على حساب أحد أطراف العالم الأوربي "الحديث"، بل يلزم البحث عن كبش فداء من الشعوب الأخرى "المتخلفة" لكي تُصدَّر إليه أزمات أوربا.