وقد تبدو هذه الإشكالية وكأنها إشكالية أكاديمية خاصة بعلماء اللغة يمكنهم وحدهم النقاش بشأنها. ولكننا سنجد أن الأمر أبعد ما يكون عن ذلك، فهو مرتبط تمام الارتباط برغبة دريدا في إنكار أية أصول متجاوزة وأي ثبات وأية كليات وذلك حتى تسود الصيرورة الكاملة والحسية والجزئية. فالكلام المنطوق يَصدُر عن جسد حي وعقل مفكر بشكل مباشر وذات مستقلة حرة وشخص ممسك بدلالة الكلمات يتحدث إليك مباشرةً، فإن لم تفهم ما يقوله فأنت تطلب منه إيضاحاً فيجيبك، وبوسعه أن يُعدِّل ما يقول أو يتحفظ عليه، فهناك معنى داخله لم يتم الإفصاح عنه. والكلام المنطوق يفترض أن فحوى الكلمات موجود بشكل مباشر في وعي الناطق، وهو ما يعني أن كلماته (دواله) تربطها علاقة مباشرة وذات مغزى بالمدلول. هذا يعني أن المعنى له أسبقية على الكلام، وأنه منفصل عن النظام الدلالي، وأنه قد هرب من الصيرورة المتمثلة في رقص الدوال، واللغة إن هي إلا أداة (المعنى في بطن الشاعر قبل أن يتحول إلى قصيدة) . والشخص الحي الناطق بالكلمات هنا هو الوسيط بين المعنى الذي في عقله واللغة التي ينطقها.
إن الكلام المنطوق تنطق به ذات إنسانية متماسكة تتحدث عن أفكار مستقرة في الذهن، فكأن هناك ذاتاً مستقرة وموضوعاً مستقراً. والمنطوق، بذلك، يشير إلى الأصل (الحضور واللوجوس) بشكل مباشر وبدون وساطة، فهو أقرب إليه وهو أكثر قرباً من نقطة الحضور من المكتوب وأكثر شفافية.