للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

يُحْضِرَكَ هذا المكانَ وأنتَ في الدنيا، فارجِعْ فادْعُ إلينا الهاربين، فإذا استَوْحَشْتَ مِن الخَلْقِ، واشتَقْتَ إلى هذا المكان، فتُحْرِمُ للصلاة نُقَرِّبُكَ ونُبَلِّغُكَ هذا المقامَ؛ ولذلك كان يقول: "أَرِحْنا يا بلالُ" (١)، وكان يقولُ: "وجُعِلَتْ قُرَّةُ عيني في الصلاة" (٢).

وقال الإمامُ القُشَيريُّ: أدناه حتى لا دُنُوَّ، وأخذَه عنه حتى لا غير، وأَصْحاهُ لَمَّا مَحاهُ عنه، وقال له ما قال، ولم يُطْلِعْ أحدًا على ما بينهما مِن السِّرِّ، وأخبَرَ أنه ما يَنْطِقُ عن الهوى، ومتى يَنْطِقُ عن الهوى مَن هو في مَحَلِّ النَّجْوى، وظاهرُه مَزْمُومٌ بزِمام التَّقوى، وفي السِّرِّ هو في إيواء المولى؟! مُصَفًّى عن كُدُوراتِ البَشَرِيَّةِ، مُرَقًّى إلى شُهودِ الأَحَدِيَّةِ، مُكاشَفٌ بجَلالِ الصَّمَدِيَّةِ، مُخْتَطَفٌ عثه بالكُلِّيَّةِ، لم تَبْقَ فيه إلا للحقِّ بالحقِّ بَقِيَّةٌ، فمَن كان هذا صِفَتُه أنَّى يَنْطِقُ عن الهوى؟! (٣)

وقولُه تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}: أي: أوحى اللَّهُ في ذلك المقامِ ما أوحى، فأخفى كلَّ شيءٍ نسَبَه إليه؛ إشعارًا بأنه الحبيبُ الأَخَصُّ، فقال في مَقامه: {أَوْ أَدْنَى}، وقال في نثاره: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}، وقال فيما رآه: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}، وقال في الوحيِ: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}.


(١) رواه ابن أبي شيبة في "مسنده" (٩٤٠)، وأبو داود (٤٩٨٥)، والطبراني في "الكبير" (٦٢١٤) من حديث رجل من خزاعة.
ورواه الإمام أحمد في "مسنده" (٢٣٠٨٨)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (٤/ ٣٥٩)، والطبراني في "الكبير" (٦٢١٥) من حديث رجل من أسلم.
قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (١/ ٦٢): رواه أبو داود، وسنده رجال الصحيحين، إلا شيخه مسددا، فانفرد عنه البخاري.
(٢) رواه عبد الرزاق في "مصنفه" (٧٩٣٩)، والإمام أحمد في "مسنده" (١٤٠٣٧)، والبزار في "مسنده" (٦٨٧٩)، والنسائي (٣٩٤٠)، من حديث أنس رضي اللَّه عنه.
(٣) انظر: "لطائف الإشارات" (٣/ ٤٨١ - ٤٨٢).