ومنها تسييره في مدة يسيرة مسافة طويلة لا يقدر البشر على قطع مثلها في مثل تلك المدة، كالإسراء بنبينا صلوات الله عليه من مكة إلى بيت المقدس، ورده منها إلى مكة في بعض ليلة. قال الله عز وجل:{سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله}، ولأنه عز وجل أخبر عن فائدة ذلك والحكمة فيه، قال:{لنريه من آياتنا}. دخل في باب الإعلام والتوفيق، وإن كان يدخل من وجه آخر في باب التأييد.
ومنها تعيير العبادة في مخاطبته، فقد روى أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم:"كيف يأتيك الوحي يا رسول الله؟ فقال: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي، فيقضي عني وقد وعيت ما قال. وأحيانا تمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما قال" وإنما كان الأول أشد الوحي عليه، لان الملك إذا مثل له رجلا فلقيه في صورة حسنة لم يداخله به روح ولا أمر تحول بينه وبين القبول عنه، وكلمه مع ذلك بلسانه الذي يعرفه كلاما عهد مثله، فلم يبعد مراده من فهمه.
وأما إذا لم ير ملكا وسمع صوتا مثل صلصلة الجرس واضطر إلى علم أنه وحي، فأول ما في ذلك أن مثل هذا الصوت إذا قرع القلب، ثم إذا أقيم مقام الكلام ولم يكن في نفسه معهودا نبا القلب عنه أول ما يرد عليه، ثم إذا العلم بأنه خطاب يحتاج إلى تلقيه وحفظه زاد ذلك في شغل القلب به.
ثم أن المخاطب بمثل هذا الصوت لا يخلو من أن يحول في ذلك الوقت عن طباعه، حتى أنه ربما أثر ذلك في أحواله الظاهرة منه، ليصير كالصحيح إذا مرض، أو الماشي إذا جهد ونصب، أو الصائم إذا جاع أو عطش.
وكان ما يعرض للنبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي عليه من البرحاء والومضاء من العرق منه في اليوم الثاني، ونقله على الراحلة حتى يكاد بطنها يلتصق بالأرض وينكسر عضداها، من هذا الوجه وقد روى في قول الله عز وجل: {حتى إذا فزع عن قلوبهم، قالوا ماذا قال