ومن لم يُحَكِّمهُ في كلِّ دقيقٍ وجليلٍ، ويَرضى وينقاد (١) له انقيادًا، ويُسَلِّم له تسليمًا، فقد خانَهُ.
ومن قدَّمَ أمرَ غيره على أمرِه عندَ التَّعارضِ فقد خانَهُ.
وبهذا يُعلَمُ كثرةُ الخائنينَ وقلَّة الأمناء!
وأما خيانة الأمانات التي بين الناس فنوعان:
أحدهما: أن يكتمَ عنه نصيحةً.
والثاني: أن يعاملَه بالغِشِّ، فتكذِبُهُ إذا حدَّثتَهُ، وتُكذِّبُهُ إذا صَدَقَك، وتغدِرُ به إذا عاهَدْتَهُ، وتخُونُهُ إذا ائتَمَنَك، وتَمْنَعُهُ من حقِّه الذي قِبَلك، وتطالبُهُ بما ليس لك عندَه من الحقِّ.
ومن خيانةِ الله وخَلْقِهِ: أن يُظهِرَ من الدين والخشوع والزهد والعفاف والورع خلافَ ما يُبطِنُ؛ فيُظهِرُ ذلك ويُبطِنُ خلافَه، فهذا يتضمنُ الخيانةَ لله ولرسوله ولخَلْقِهِ ولنفسِهِ:
وأما خيانة الله: فإنه أظهر إخلاصَ العبوديَّة له، وأبطَنَ خلافَ ذلك.
وأما خيانة الرسول: فإنه أظهر طاعتَهُ ومتابعتَه، وأبطَن خلافَها.
وأما خيانتُه للنَّاس: فإنه أظهر لهم ما يحبُّونه ويحمدونَه عليه ويُكرِمونه لأجله ويقرِّبونَه عليه، وأبطن خلافَه، ولو علموا منه ما أبطنه لعامَلُوه بما ينبغي أن يُعامَلَ به، فهذا خيانتُهُ لهم.
وأما خيانتُه لنفسه: فبَخْسُها حظَّها وظلمُها ووضعُها في أردى المواضع وأخسِّها، وهي أخسُّ مراتبِ بني آدم؛ ولهذا كان منزلة هؤلاء عند الله تعالى أسفلَ سافلِينَ في الدَّرك الأسفلِ من النَّار.
(١) كذا في النسخة، وهما مجزومان عطفًا على "يحكِّمْه"، فينبغي أن يكون "ويرضَ ويَنقَدْ".