للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَلَكِنَّهُ بِكُلِّ مَكَانٍ. وَتَأَوَّلْتَ فِي ذَلِكَ بِمَا تَأَوَّلَ بِهِ جَهْمٌ قَبْلَكَ، فَقُلْتَ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} الآيَة [المجادلة: ٧]، ثُمَّ رَوَيْتَ عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ وَقَدْ رَفَعُوا الصَّوْتَ بِالتَّكْبِيرِ: «إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّه أقربُ إِلَيْكُم مِنْ رُؤُوسِ رَوَاحِلِكُمْ» (١).

فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضُ: هُوَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، وَوَصَفَهُ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم -

مَعَ كُلِّ ذِي نَجْوَى، وَأَقْرَبُ إِلَى أَحَدِهِمْ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ، وَأَقْرَبُ مِنْهَا، بِعِلْمٍ وَمَنْظَرٍ وَمَسْمَعٍ مِنْ فَوْقِ العَرْشِ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ، وَلَا يَحْجُبُهُمْ عنْهُ شَيْءٌ، عِلْمُهُ بِهِمْ مِنْ فَوْقِ العَرْشِ مُحِيطٌ. وَبَصَرُهُ فِيهِمْ نَافِذٌ، وَهُوَ بِكَمَالِهِ فَوق عَرْشِهِ. وَالسَّمَاوَاتُ وَمَسَافَةُ مَا بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي الأَرْضِ، فَهُوَ كَذَلِكَ مَعَهُمْ، رَابِعُهُمْ وَخَامِسُهُمْ وَسَادِسُهُمْ، يَعْلَمُ مَا عَمِلُوا مِنْ شَيْءٍ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُم يَوْمَ القِيَامَةِ بِمَا عَمِلُوا، كَذَلِكَ هُوَ مَعَ كُلِّ ذِي نَجْوَى، لَا كَمَا ادَّعَيْتُم أَنَّهُ مَعَ كُلِّ بَائِلٍ وَمُحْدِثٍ، وَمُجَامِعٍ فِي كُنُفِهِمْ، وَحُشُوشِهِمْ، وَمَضَاجِعِهِمْ.

وَإِنَّمَا يُعْرَفُ فَضْلُ الرُّبُوبِيَّةِ وَعِظَمُ القُدْرَةِ بِأَنَّ الله تَعَالَى مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ وَبُعْدَ مَسَافَةِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَعْلَمُ مَا فِي الأَرْضِ، وَمَا تَحْتَ الثَّرَى، وَهُوَ مَعَ كُلِّ ذِي نَجْوَى، وَلِذَلِكَ قَالَ: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الرعد: ٩]، وَلَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ كَمَا ادَّعَيْتُمْ بِجَنْبِ كُلِّ ذِي نَجْوَى؛ مَا كَانَ بِعَجَبٍ أَنْ يُنَبِّئَهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ.

فَلَوْ كُنَّا نَحن بِتِلْكَ المَنْزِلَةِ مِنْهُمْ؛ لَنَبَّأْنَا كُلَّ عَامِلٍ مِنْهُمْ بِمَا عَمِلَ وَقَالَ، وَنَاجَى بِهِ أَصْحَابَهُ، فَمَا فَضْلُ عَلَّامِ الغُيُوبِ عَلَى المَخْلُوقِ-الَّذِي لَا يَعْلَمُ الغَيْبَ


(١) صحيح، تقدم تخريجه برقم (٥٨).

<<  <   >  >>