بها، وانحدرت بين أذني ورأسي ولساني عشرين مرة، ثم كأني لم أسمع بها إلا الآن، وكأني كنت فيها في ليل مظلم فطلعَت عليّ مقالتك شمساً ساطعة؛ عرفت معها كيف تكون حُصَيَّاتُ الليل لآلئَ النهار. فما بالك بمن لم يسمع باسم سعيد؟ وما بالك بمن لا يعرف في الدنيا أدباً إلا الأدب الذي يسقط علينا من باريس أو لندن، ولا يدري من البلاغة إلا أنها التي تلوح بين سطورها رؤوس البنادق وأفواه المدافع وأجنحة الطيارات؟
ومثل أولئك كثير؛ فقد عابوك بالغموض ورمَوَك بالإبهام، وادّعَوا أن كتبك لا تُفهَم ومعانيك لا تُسَاغ، فلما ظهر أن في الغرب شاعراً فحلاً مذهبه الغموض يتخذه ويدعو له ويدافع عنه، أصبح الغموض فناً من فنون الأدب تُتمَحَّل له الأسباب وتُتلمَّس له الدّوَاعي! فما الذي جعل سيئة الرافعي حسنة بول فاليري، إلا أن ذاك من فرنسا وهذا من مصر؟
أما إن هذا الإيمان بالغرب إذا انتقل من الشيوخ إلى الشبّان لم يكن إلا كفراً بالشرق وإلحاداً بالعقائد الشرقية وجهلاً باللغة الشرقية وخروجاً من الجلدة الشرقية! وإن عندنا في دمشق ندوة أرادت أن تَعيب مَجْمَعنا الأدبي (١)، فلم تجد أبلغ في العيب
(١) يريد «ندوة المأمون» التي كان ميشيل عفلق من أعضائها وكانت على خصومة مع المجمع. انظر أخبار «المجمع الأدبي» في دمشق في الحلقة ٦٦ من الذكريات (ج٣ ص٣٧٧ من الطبعة الجديدة)، وكان علي الطنطاوي عضواً فيه، ولمّا نشر هذه المقالة في مجلة «الرسالة» في تلك السنة ذيّلها باسمه مع إشارة إلى عضويته في المجمع، فتركتها كما هي لأنها صارت صفحة من سجل التاريخ (مجاهد).