قلت في مقالة «الرسالة»: لقد أصبح النحو علماً عقيماً، يدرسه الرجل ويشتغل به سنين طِوالاً، ثم لا يخرج منه إلى شيء من إقامة اللسان والفهم عن العرب. وإني لأعرف من شيوخنا من قرؤوه وأقرؤوه دهراً، ووقفوا على مذاهبه وعلى أقواله وعرفوا غوامضه وخفاياه، وأوّلوا فيه وعلّلوا وناظروا فيه وجادلوا، وذهبوا في التأويل والتعليل كل مذهب، ثم لا يكاد أحدهم يقيم لسانه في صفحة يقرؤها، أو خطبة يلقيها، أو قصيدة يرويها!
ولم يقتصر هذا العجز على طائفة من الشيوخ المعاصرين ومن قبلهم من العلماء المتأخرين، بل لقد وقع فيه ناس من جلّة النحويين وأئمتهم منذ العهد الأول! روى السيوطي في «بُغية الوُعاة» أن رجلاً قال لابن خالَوَيه (وهو النحوي الإمام الذي اختص بسيف الدولة، وسكن حلب وانتشر فيها علمه وروايته، وله مع المتنبي أخبار ومناظرات)، قال له رجل: أريد أن تعلّمني من النحو والعربية ما أقيم به لساني، فقال له ابن خالويه: أنا منذ خمسين سنة أتعلم النحو، ما تعلمت ما أقيم به لساني!
فأي فائدة من النحو إذا كانت قراءته خمسين سنة لا تعلّم صاحبها كيف يقيم لسانه؟
(إلى أن قلت): وسبب هذا التعقيد -فيما أحسب- أن النحاة اتخذوا النحو وسيلة إلى الغنى وطريقاً إلى المال، وابتغوه تجارة وعرَضاً من أعراض الدنيا، فعقّدوه هذا التعقيد وهوّلوا أمره حتى يعجز الناس عن فهمه إلا بهم، فيأتوهم فيسألوهم، فيعطوهم، فيغتنوا.