للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الله به خلقا كثيرا منهم علماء / ومتعبّدون، وكان أيّام إقامة أبي العبّاس، والد أبي إسحاق بجبنيانة، يوجّه بأبي إسحاق إليه يعلّمه ويقيم عنده يتعلّم فيتخلّف إليه غدوّا وعشيّا تبرّكا به، يفعل ذلك في كلّ سنة إلى أن بلغ أبو إسحاق الحلم، فدخل قلبه من الخير ممّا يسمع من إبن عاصم وما يعاين من فضله ما أزعجه عما كان فيه، فانخلع من الدّنيا ولبس عباءة وهرب، فطلب فلم يوجد.

قال الشّيخ أبو القاسم: عرّفني الشّيخ الجليل أبو الحسن علي بن محمّد الفقيه - يعني القابسي - عن أحمد بن عيشون البكّاء، وكان من خيار أصحاب أبي إسحاق، أن أبا إسحاق وجد بعد مدّة يعجن طينا بمدينة سوسة بأجرة، فقيل [له] إن أباك كثير الإجتهاد في طلبك، فقال: قولوا له: أكنت تظنّ أنّه يخرج من ظهرك من يطلب الحلال؟.

ولمّا هرب وقع عند رجل بناحية سوسة، فاستأجر نفسه عنده يرعى (١٠٩) له بقرا، فأتاه يوما بفأس، فقال: إقطع خشبة من هذه الشّجرة، فقال له الشّيخ أبو إسحاق:

ليست لك إنّما هي لأخيك، فقال له: صرت له ضدّا، إنما عليك أن تستمع ما آمرك به فتعمله، فقال له الشّيخ: بل عليّ أن أتّقي الله، فانصرف عنه فلحقه، وبذل له أجرته، فقال له الشّيخ: من أين تدفعها إلي، أنت لم تتورع عن قطع شجرة أخيك في غيبته، فمن أين تريد أن تدفع إلي؟ فذهب ولم يأخذ منه شيئا.

(وإذا استأجر نفسه لجمع الزيتون وبذلوا له أجره ردّ لهم بعضه خوفا أن يكون حصل منه تقصير في العمل) (١١٠)، ثمّ وفّقه / الله لطلب العلم، فكان (١١١) لا يسمع بعالم إلاّ أتاه، فسمع منه وكتب عنه، ولا يسمع برجل صالح إلاّ أتاه وانتفع به، وذلك كلّه أيّام بني الأغلب، وأبوه معهم على حالته إلى أن زال بنو الأغلب، وطولب أبوه فيمن طولب، فأخذت أملاكه ومنازله ورباعه، ولم يبق له إلاّ بعض دور بمدينة صفاقس.

كلّ ذلك والشّيخ أبو إسحاق هارب من بلد إلى بلد مجدّ في طلب العلم والعبادة والزّهد في الدّنيا.

ثمّ حجّ في سنة أربع عشرة وثلاثمائة (١١٢) وانصرف، فكان يبحث عن العلماء


(١٠٩) في ش: «يرعا».
(١١٠) في المناقب عن أبي القاسم عن أبي بكر السّيوطي: «ربّما استأجرنا أنفسنا في جمع الزيتون، أنا وهو، إذا دفعت إلينا أجرتنا يحط منها ويقول: نخشى أنا لم نوف فكيف نستوفي». ص: ٦.
(١١١) «فكان في تصرفاته وسياحته»، المناقب ص: ٧.
(١١٢) ٩٢٦ م.