جلاله، فبوسع من ينظر إليهم وهم طائفون حول البيت في ساحات الحرم المكيِّ الشريف يلهجون بالتلبية والدعاء بصوتٍ واحد يَتراجع به اختلاف الألسنة، وتبدل الألوان والثقافات، أن يدرك دقة ما أرمي إليه. إنهم يتحركون في ساحة الطواف وكأنَّ الجميع يقفون على قُرْصٍ متحرك يطوف بهم جميعاً طواف جسدٍ واحد، وكم مرة أخذتني النشوةُ فتفاءلتُ بالمستقبل من وقع جمالية هذا المشهد العجيب بما يحمله من بذور الوحدة والسلام والحرية والمساواة وسائر المعاني التي تنادي بها النخبة المتحضرة من بني البشر.
إلى هنا الصورة مضيئة، والهيئة العامة للحج والحجاج تمهدُ لقادمٍ مشرقٍ ننتظره من رحلة السلام هذه، وتنتظره البشرية من أُمة الإسلام، لكنَّ الذي يتم بعد ذلك هو نقيض ما حدَّثتك عنه، حيث لا تثبت على مرآة واقع الكثير تلك الصور التي انعكست لك أثناء أداء المناسك عن حجاج بيت الله الحرام، ذلك أنه ما إن ينفضَّ الحجيج عن تلك الديار، بتتابع قوافلهم إلى شتى البلاد حتى ترى العديد ممن شهد تلك الوقائع معرِضاً عن دواعي الكتاب والسنة، مقبلاً على شياطين الإنس والجن، يستلهم من إيحاءاتهم ثقافته وأُسلوب حياته، ينحط معهم إلى حضيض الحرام الذي يتنافى مع شعار"لبيك" ومضمون "لبيك"! متجاهلاً أفعال الحج التي تهذبُ المسلم ليكون عبداً خالصاً لوجه ربه المتعال! . يتناسى هذا المسلم معاني البيت وعرفة والجمع ورمزية الجمرات في منى، والأجواء الروحانية في مكة والحرم في سبيل تحقيق شهوة شخصية كان من الضروري أنه تحرر من قيدها الأسود الغليظ في رحلة الحرية رحلة الحج إلى بيت الله الحرام، فتراه يقيم لحساب نزواته وأنانياته أحلافاً محرَّمة مع أعداء الله والعقيدة والبيت في وجه مَن كان يقف معهم صفاً متراصَّاً خلف إمام الحرم متوجهاً إلى كعبة الله الماثلة أمامه رمز العبودية والتوحيد والوحدة