ومن تمام رحمة الله ما ألزمنا به من وجوب مجاهدة الأهواء التي تتنازعنا حرصاً علينا لنتحرر من رِقِّها: قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)} [العنكبوت: ٦٩]، والمجاهدة والجهاد والاجتهاد، والتجاهد في القاموس: بذل الوسع وكلها مصادر من جاهد المشتق من الجَهْدِ وهو المشقة، أما الوُسع فهو ـ كما تعلم ـ ما كان بمقدور الإنسان أن يبذله. إنّ دواعي المجاهدات الشرعية هي تلك الطبيعة التي خلق بها ربُّنا جلّ وعلا هذا الكائن العاقل المسمى: "الإنسان" وهي كما يقول فضيلة الشيخ القرضاوي: "طبيعة مزدوجة"، فهو ليس جسداً خالصاً، ولا روحاً خالصة، وإنما خَلْق جمع بين الروح والجسد، تصديقاً لقوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (٢٩)} [الحجر: ٢٩]، فالتسوية حاصلة لطينته التي منها خلق، ونرمز لها بالعنصر الأرضي، والنفخ في ذلك الجسد حاصل من روح الله، ونرمز له بالعنصر السماوي، ومن هذا المزيج كوّن ربنا الإنسان الأول آدم، ومنه خلقت أمنا حوّاء، ومنهما بثّ الخالق في الأرض رجالاً كثيراً ونساءً، وهو الخلق الذي ما يزال يتنازعه عاملا الجسد والروح، هذا يشده إليه ليهبط ويخلد إلى الأرض، وذاك يجذبه إليه لينحاز به إلى فريق الملائكة، وكلاهما إذا ما تغلب بالضربة القاضية أورث صاحبه حالة تتنافى مع سنة الله في هذا المخلوق الإنساني؛ لأن إنسانية البشر لا تتحقق إلا بإحداث توازن يلبي حاجات العنصرين معاً، دون أن يطغى أحدهما على الآخر، كما أن إهمال تلك الحاجات يتولد عنه تضادّ يحتدم في كيان كل إنسان لا يحسم نتيجته لصالح الإنسان إلا الدين الذي أنزله مَن صنع الكائن الإنساني بيده، وبثّ فيه من روحه، وأوْدع فيه عجائب صنعه. إنّ انتصار عامل الطين ينحدر بصاحبه إلى دركات الحيوانات، لا بل إلى درجة هي أقل بكثير من رتبتها، وبوسعنا أن نلقي نظرة سريعة إلى حال الغربيين في أوروبا والأمريكتين لندرك المآل الذي صار إليه هؤلاء، فالجنس لم يعد لإرواء الغرائز بالوسائل المباحة، وإنما غدا استثارة لها، وتوظيفاً لبريقها في هدم الأسرة، وتفكيك المجتمع، وخنق صوت الفضيلة والاستيلاء على قطيع لا ينتهي من الرقيق الأبيض من نساء تُعامَلنَ كالبهائم التي تسرح في المرعى! كما أن الرجل الأبيض هناك يقتل بدم بارد بني جنسه وهو ما نشاهده يومياً من خلال الجريمة المنظمة، ومسرح العراق وفلسطين مما لا يتوقف فصوله عن مادة الأقنية الفضائية، وصدق الله حين يقول: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: ١٧٩] ولا يتنافى هذا مع النجاح الكبير على الصعيد المادي الذي يتحقق على يد الغربيين فإنهم أمعنوا من خلاله بإفساد البر والبحر والفضاء والبيئة وإهلاك الحرث والنسل، وإفساد الفطرة التي فطر الله الناس عليها. أما انتصار العنصر السماوي مع سحق العنصر المادي أو يكاد فهو تجريد للإنسان من بشريته، وهو دفع له نحو فئة ليست من جنسه، وليس من جنسها! ولا يصلح من هذا حاله لإقامة حضارة الله في الأرض؛ لأنه سيغدو سلبياً متواكلاً لا حول ولا قوة له، مقطوعاً عن عالم الأسباب الذي أقامه الله فيه، وسنّه لبني البشر. إنّ الترياق الشافي هو نهج الكتاب والسنة الذي حمل لنا التكاليف الإسلامية، التي حققت لنا التوازن المطلوب بين هذين العنصرين المتنازعين على قيادة هذا الكائن؛ لأنّ تلك التكاليف لا تنتزع العبد من أرضه التي منها =