وإذا قال قائل: إذا كانت للعموم فمعنى ذلك أنهم لا يعقلون شيئاً حتى من أمور الدنيا مع أنهم في أمور الدنيا يحسنون التصرف: فهم يبيعون، ويشترون، ويتحرون الأفضل، والأحسن لهم؟
فيقال:" {لا يعقلون شيئا}، لفظ عام ومعناه الخصوص لأنهم كانوا يعقلون أمر الدنيا، [ومعناه] لا يعقلون شيئا من أمر الدين ولا يهتدون"(١).
قال ابن عثيمين: المعنى: " أنهم لا يعقلون شيئاً من أمور دينهم، لأن المقام هنا مقام منهاج، وعمل، وليس مقام دنيا، وبيع، وشراء؛ فيكون المراد بقوله تعالى:{شيئاً} شيئاً من أمور الآخرة؛ وكلا الاحتمالين يرجع إلى معنى واحد"(٢).
الفوائد:
١ - من فوائد الآية: ذم التعصب بغير هدى؛ لقوله تعالى:{بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا}؛ مع أن آباءهم لا عقل عندهم، ولا هدى.
٢ - ومنها: أن من تعصب لمذهب مع مخالفة الدليل ففيه شبه من هؤلاء؛ والواجب أن الإنسان إذا قيل له:«اتبع ما أنزل الله» أن يقول: «سمعنا، وأطعنا».
٣ - ومنها: أنه لا يجب الانقياد إلا لما أنزل الله - وهو الكتاب، والحكمة -.
٤ - ومنها: بيان عناد هؤلاء المستكبرين الذين إذا قيل لهم: {اتبعوا ما أنزل الله} قالوا: {بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا} دون أن يقيموا برهاناً على صحته.
٥ - ومنها: أن كل من خالف الحق، وما أنزل الله فليس بعاقل، وليس عنده هدًى؛ لقوله تعالى:{لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون}.
٦ - قال علماؤنا: وقوة ألفاظ هذه الآية تعطي إبطال التقليد، ونظيرها:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}[المائدة: ١٠٤] الآية. وهذه الآية والتي قبلها مرتبطة بما قبلهما، وذلك أن الله سبحانه أخبر عن جهالة العرب فيما تحكمت فيه بآرائها السفيهة في البحيرة والسائبة والوصيلة، فاحتجوا بأنه أمر وجدوا عليه آباءهم فاتبعوهم في ذلك، وتركوا ما أنزل الله على رسوله وأمر به في دينه، فالضمير في "لهم" عائد عليهم في الآيتين جميعا، وقد تعلق قوم بهذه الآية في ذم التقليد لذم الله تعالى الكفار باتباعهم لآبائهم في الباطل، واقتدائهم بهم في الكفر والمعصية. وهذا في الباطل صحيح، أما التقليد في الحق فأصل من أصول الدين، وعصمة من عصم المسلمين يلجأ إليها الجاهل المقصر عن درك النظر. واختلف العلماء في جوازه في مسائل الأصول على ما يأتي، وأما جوازه في مسائل الفروع فصحيح، والتقليد عند العلماء حقيقته قبول قول بلا حجة، وعلى هذا فمن قبل قول النبي صلى الله عليه وسلم من غير نظر في معجزته يكون مقلدا، وأما من نظر فيها فلا يكون مقلدا (٣).
انتهى المجلد الثالث من التفسير ويليه المجلد الرابع بإذن الله، وبدايته تفسير الآية (١٧١) من سورة البقرة.