للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا مقامٌ شاع خوضُ البلغاء فيه من عهد الجاهلية، وقد رُوِيتْ قصةُ طعنِ النابغة على حسان في عكاظ قولَ حسان - رضي الله عنه -:

لَنَا الجَفَنَاتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ بِالضُّحَى ... وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دَمَا (١)

إذ أخذَ عليه استعمالَ جمع القلة للجفنات، وأنه جعل لمَعانَها في الضحى، وكان عليه أن يقول: في الدُّجى. وهي مشهورةٌ في دواوين الأدب العربي، وقد ذكرها قدامة في باب المعاني الدال عليها الشعر (٢).

وقد اختار أئمةُ الأدب الغلوَّ، كما صرح به المؤلفُ هنا، وسبقه إليه قدامةُ في "نقد الشعر" إذ يقول: "إن الغلوَّ عندي أجودُ المذهبين، وهو ما ذهب إليه أهلُ الفهم بالشعر والشعراء قديمًا"، قال: "وقد بلغني عن بعضهم أنه قال: أحسنُ الشعر أكذبُه". (٣) والاستعارةُ مبنيةٌ على الكذب، وكذلك المبالغة. وعلى هذا الاختلاف جرى كلامُهم في المبالغة المقبولة والمردودة، كما هو مُبَيَّنٌ في فن البديع. وقد نَبَّهَ المرزوقيُّ - تبعًا لقُدامة - على أن مرادَهم بالأكذب هو الغلو، وهو كذبٌ تصاحبه قرينةٌ على أنه مخالفٌ للواقع لغرض لطيف، وليس مرادُهم الكذبَ مطلقًا (٤).


(١) ديوان حسان بن ثابت، ج ١، ص ٣٥. والبيت هو الثالث والثلاثون من قصيدة في ستة وثلاثين بيتًا قالها حسان رضي الله عنه مفتخرا.
(٢) وقد رد قدامة بن جعفر هذا الانتقاد على حسان، فقال: "وأما قول النابغة في: يلمعن بالضحى، وأنه لو قال: بالدجى لكان أحسن من قوله: بالضحى؛ إذ كل شيء يلمع بالضحى، فهذا خلاف الحق وعكس الواجب؛ لأنه ليس يكاد يلمع بالنهار من الأشياء إلا الساطعُ النور الشديدُ الضياء. فأما الليل فأكثرُ الأشياء مما له أدنى نور وأيسر بصيص يلمع فيه". نقد الشعر، ص ٨١ - ٨٢. وانظر القصة في: المرزباني: الموشح، ص ٧٦ - ٧٧.
(٣) قدامة بن جعفر: نقد الشعر، ص ٨٢.
(٤) قال المصنف رحمه الله عند تفسير الآيات ٢٢٤ إلى ٢٢٦ من سورة الشعراء: "والكذبُ مذمومٌ في الدين الإسلامي، فإن كان الشعر كذبًا لا قرينةَ على مراد صاحبه فهو قبيح، وإن كان عليه قرينة كان كذبًا معتَذَرًا عنه، فكان غير محمود". ثم قال: "وقد دلت الآية على أن للشعر حالتين: حالة مذمومة، وحالة مأذونة، فتعين أن ذمه ليس لكونه شعرًا ولكن لما حف به من معان وأحوال =

<<  <  ج: ص:  >  >>