بنية متماسكة قد بنيت من المقاصد الكلية على أسس وأصول، وأقيم على كل أصل منها شعب وفصول، وامتد من كل شعبة منها فروع تقصر أو تطول؛ فلا تزال تنتقل بين أجزائها كما تنتقل بين حجرات وأفنية في بنيان واحد قد وضع رسمه مرة واحدة، لا تحس بشيء من تناكر الأوضاع في التقسيم والتنسيق، ولا بشيء من الانفصال في الخروج من طريق إلى طريق، بل ترى بين الأجناس المختلفة تمام الألفة، كما ترى بين آحاد الجنس الواحد نهاية التضامِّ والالتحام. كل ذلك بغير تكلفة ولا استعانة بأمر من خارج المعاني أنفسها، وإنما هو حسن السياقة ولطف التمهيد في مطلع كل غرض ومقطعه وأثنائه، يريك المنفصل متصلًا، والمختلف مؤتلفًا.
ولماذا نقول: إن هذه المعاني تنتسق في السورة كما تنتسق الحُجُرات في البينان؟ لا، بل إنها لتلتحم فيها كما تلتحم الأعضاء في جسم الإنسان، فبين كل قطعة وجارتها رباط موضعي من أنفسهما، كما يلتقي العظمان عند المفصل ومن فوقهما تمتد شبكة من الوشائج (١) تحيط بهما عن كثب، كما يشتبك العضوان بالشرايين والعروق والأعصاب؛ ومن وراء ذلك كله يسري في جملة السورة اتجاه معين، وتؤدي بمجموعها غرضًا خاصًّا، كما يأخذ الجسم قوامًا واحدًا، ويتعاون بجملته على أداء غرض واحد، مع اختلاف وظائفه العضوية.
فيا ليت شعري: إذا كانت كافة الأجزاء والعناصر التي تتألف منها وحدة السور منوطة بأسباب لم تكن كلها واقعة ولا متوقعة، وكان لا بد لتمام هذه الوحدة من وقوع تلك الأسباب كلها في عصر نزول القرآن ليتناولها ببيانه، فما الذي أخضع دورة الفلك لنظام هذه الوحدات وجعل هذه النوازل تتوارد بأسرها في إبان التنزيل؟ لماذا لم يتفق في حادثة واحدة منها أن تخلفت عن عالم الوجود يومئذ لينخرم هذا النظام، فتجيء سورة من السور مبتورة في مفتتحها أو في مختتمها أو فيما بين ذلك؟ أليس مطاوعة تلك الأحداث الكونية ومعاونتها بدقة
(١) «الوَشائجُ: جمع الوَشِيجِ، وَهُوَ (اشتِباكُ القَرَابةِ) والتفافُها»، تاج العروس من جواهر القاموس: (٦/ ٢٦٠).