قال القاضي: ما أبعد كلامهم من البيان الصواب، وما أكثر حشوهم في الخطاب رحمنا الله وإياهم وتجاوز عنا وعنهم.
من طلب امرأة عند قاض فأنكرته، وأراد صرف نظره إلى غيره من الحكام:
قام عندي رجل بكتاب فيه ذلك حق على امرأة، فأنكرت ذلك الحق، فأتى بينة لم أعرفها، فقال الطالب: إن كنت لم تعرفهم ولست أقدر على تعديلهم فدعني أمضي إلى غيرك من الحكام، فقالت المرأة: وكيف بعد أن أنكرت وأتى ببينة لم تقبلهم، وأنا أرجو أن تجره وتقطع طلبه وتعنيته عني، وكيف يخرجني من عدلك إلى من ليس مثلك من الحكام؟
الحواب في هذا إلى اجتهادك، إن كان ما أدخل بينه مشبهة قد يقبلها حاكم ويجعلها آخر، فما بأس أن تكشف عنها، فلعل حق الرجل يصح عند غيرك من غير أن يكون في ذلك قطع بينة، إن كانت بينة ضعيفة، ليس مثلها يرجى قبلها، فلا تخرجها من عندك، واستمر في نظرك كما نظرت في مثل هذا من العجيز، قاله محمد بن عمر بن لبابة.
قال القاضي:
هذا ألحن الفقه، ولو سوغ الناس هذا وشبهه لكان عونًا على التشعيب وتطويل الخصام على المطلوب، وهم لا يجيزون له التوكيل على الخصام بعد مجالسة المطلوب عند الحاكم، إذا كانت مجاهرته إياهم قد تكررت مجالسة المطلوب عند الحاكم، إذا كانت مجاهرته إياهم قد تكررت مجلسين أو ثلاثة، وانعقدت بينهما مغالات إلا بعذر بين للحكم به، فكيف يسعه ترك النظر في أمره بعد إنكاره مطلوبته وشهادة ببينته؟.
هذا مما لا ينبغي أن يقول به أحد، ولا يبيحه حاكم مع ما فيه من إزالة الحكام، والاستخفاف بهم، والتعويض بمسامحة بعضهم.
وقد أجازوا تحكيم المتداعيين رجلا يحكم بينهم. قال مالك: وينفذ حكمه عليهما، قال ابن القاسم: وإن قضى بما اختلف فيه، وقال ابن حبيب: قلت لمطرف وابن الماجشون: هل للخصم أن يرجع عن رضاه بتحكيم الحكم قبل الحكم أو بعده؟ فقال لي مطرف: له النزوع عن ذلك في مبتدأ أمرهما، وقبل نظره في شيء بينهما، فأما بعد تشوبهما في الخصومة عنده ونظره في شيء من أمرهما فلا نزوع لواحد منهما، وقد لزمتهما المخاصمة والتمادي فيها، وما جرى من صواب حكمه ورأيه.