والاعتراضُ لا نسلِّم إطباقَ الفُقَهَاءِ علَى ذلك؛ فإنَّ مالكًا لا يُسَاعِدُ على الشَّكِّ في الحدث، ولا الشَّك في الطلاقِ، وأصحابُ الشَّافعيِّ خالفُوا هذا الأصْلَ في مسائِلَ: فَمَنْ شَكَّ في وَقْتِ المَسْحِ أو انقضاءِ مدته أوْ انْتِهَاءِ السفينة به إلى مقصده، أو أنَّ إمامه مقيمٌ - فإنه لا يترخّص، وكذلك إذَا شَكَّ في خروجِ وَقْتِ الجمعة، لَمْ يُقِمْهَا، أو عُورضَ اشتباهُ منكوحَتِهِ بأجنبِيَّةٍ، ولو سُلِّم، فإنما كان ذلك لِدَلَالةِ الدليلِ علَيه، وضَعْفِ المعارِضِ، لا لمُجَرَّدِ أنَّ الحُكمَ إذا ثبت وجَبَ دوامُهُ. ثم لو سُلِّمَ له دلالةُ جميعِ ما ذَكَرَهُ، فإنَّما يَتَّجِهُ مَعَ بقاء صورة مَحَلِّ الحُكم، أمَّا مع تبدُّل أَحوالِهِ فلا، وهو مَحَلُّ النزاعِ؛ أعْنِي استصحاب حُكمِ الإِجماعِ في صورة النِّزَاعِ.
هَذَا هو القسْمُ الأَوَّل من الاستصحاب: وهو استصحاب البَرَاءَةِ الأَصْلِيَّةِ، وهو مُتَّفَقٌ عليه، وَالْمُعْتَمَدُ في الجَزمِ في النَّفْي بَعْدَ استفراغ الجهدِ من المجتهدِ وَعَدَمِ الاطلاع علَى المغير - إجماع السلف؛ إذ لَوْلَاهُ لكان الأقربُ في مُوجِبِ العَقْلِ بعد بعثة الرُّسُل، وعَدَم الوقوفِ على النَّاقِلِ - الوقفَ؛ لأن الأصْلَ قد عارضَهُ النَّقْلُ الغالِبُ.
قوله:"فإِنْ قِيلَ: هذا الدليلُ الذي ذَكَرْتُمُوهُ دليلٌ رَابِعٌ ... ":