ومن ثم كان من المنطقي أن يدعو الونشريسي وغيره من المسلمين إلى الهجرة صيانة للدين الإسلامي وإنقاذاً للمسلمين، وكان من المنطقي -أيضاً- أن يكفروا من قدر على الهجرة ولم يهاجر؛ لأن إقامته بأرض الكفر تعرض الدين لمخاطر كثيرة. ويعتبر هذا الحكم الذي رآه الونشريسي وغيرهُ من الفقهاء موقفاً معقولاً وواقعياً، إلا أن الغريب حقاً هو أنهم لم يهتموا اهتماماً كافياً بالطرف الآخر من المشكلة وهو: إلى أين يهاجر هؤلاء؟ وواجب المسلمين الآخرين في استقبالهم وإيوائهم وحمايتهم، ومن الذي يتحمل هذه المسؤولية، هل الأقرب أم الأقوى؟ فهل كان الأمر عندهم مفروغاً منه ولا يحتاج إلى إفتاء؟ أم أنهم لم يرغبوا في إثارته لأسباب خاصة؟! والواقع أن أمر الهجرة لم يكن أمراً يسيراً على كل حال، فقد اعترضت المهاجرين عراقيل مختلفة، كان منها ماتكلفه هذه الهجرة من تضحيات مادية، ومايحسه المهاجر من فروق بيئته القديمة التي هاجر منها، والبيئة الجديدة التي هاجر إليها. إلا أن هذه العراقيل لا ينبغي أن تكون مسوِّغاً للقول بالإقامة بأرض الكفر وعدم الهجرة منها؛ لأن حل المشكلة يكمن في القضاء على تلك العراقيل وتذليلها وليس في العدول عن الهجرة بالمرة، ويخطيء من يثير قضية الوطن في هذا الموضوع، فالمسلم لا يرتبط بالأرض، ولكنه يرتبط بدينه، فأينما تحققت مبادىء الإسلام وضمنت الحقوق الإسلامية فثمة وطن المسلم، وهذا لا يعني أننا ننكر مشاعر الإنسان ولا إحساسه تجاه وطنه، ولكننا ننكر أن ينتفخ هذا الإحساس ويتضخم إلى درجة أن يصبح في حجم الدين بالنسبة للمسلم. ففكرة الوطنية كانت من أشد ما ابتلي به الإسلام في الحقبة الأخيرة، إلى جانب القوميات القائمة على أساس الجنس. وكما نرى، فالإمام الونشريسيُّ لم يقم أي وزن لاعتبار المصلحة في فتواه، بينما يرى الإمام المازريُّ مراعاة المصلحة في ذلك؛ فقد سئل عن أحكام قاضي صقلية وشهادة عدولها، ولايدري السائل إقامة المسلمين هنالك تحت الكفر: اختيارية أم ضرورية؟ فكان من ضمن ما أجاب به المازري قوله: «وهذا المقيم ببلد الحرب، إن كان اضطراراً فلا شكَّ أنه لا يقدح في عدالته؛ وكذا إن كان اختياراً، جاهلاً بالحكم، أو معتقداً للجواز، إذ لا يجب عليه أن يعلم هذا الطَّرف من العلم وجوباً يقدح تركه في عدالته. =