فأمَّا قولُه:(فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ) يعني فلا يتعارفون في هذه المواطن
أنسابَهم، وعلى هذا دلَّ قوله:(يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) ، ويحتملُ أن يكون أرادَ بقوله:(فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ) ، فلا أنسابَ بينهم نافعةَ لهم، ولا أنساب بينهم يتراحمون ويتعاطفون
بها كتعاطف ذوي الأنساب بعضُهم على بعضِ في الدنيا، وإذا كان ذلك
كذلك بطلَ ما توهّموه.
قالوا: ومن هذا أيضا قولُه تعالى: (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ) ، وقد عُلِمَ أن أكثر الأديان التي يوفيها أهلها ليست بحقّ، وهذا أيضا
باطل من توهّمهم، لأنّه لم يُردْ تعالى بالدين ها هنا الدينونةَ بالمذاهب
والتديَنَ بالأقوال وإنما - أرادَ الحسابَ والجزِاء، من قولهم: كما تدين تُدان، أي كما تَفعلْ يُفعَل بك، ومنه:(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، يعني
يومَ الجزاء والحساب، ومنه قولُه:(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) ، أي: الحسابُ الصحيح، وفي قول:(يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ) دليل على ذلك، لأنّه إنما يوفَى العالمينَ جزاءَ اكتسابهم من ثوابِ أو عقاب.
قالوا: ومما لا معنى له قولُه تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) ، وكيف يكونُ الله هو الرامي والرسولُ لم يرم، وهو الرامي على الحقيقة، فيثبتُ الرميَ لمن لم يكن منه وينفيه عمن وقعَ منه؟
يقال لهم: إنّما أراد بذلك - والله أعلم - أنني أنا المقدرُ لكَ على الرميِ
والموفقُ لله فيه، والتبليغُ برميكَ ما لم تظنَ أنّك تبلُغُه بها، فأضاف الرميَ إلى
نفسه على هذا التأويل، ونفاه عن نبيه على معنى نفي إقداره لنفسه وتوفيقه
لها وبلوغه بالرمية ما قيضه الله من هزيمة العسكر يومَ بدر وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم -