وأمَّا التعلُّقُ بقوله: (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) فمعناه - والله أعلم - أنني لو كنتُ أعلمُ الغيبَ لكنتُ إلهاً قديما.
والقديمُ لا ينالُه السوءُ ولا يلحقهُ نقصٌ ولا تغيير.
ويمكن أن يكونَ أراد أنني لو كنتُ أعلمُ الغيب لنجوتُ من الحوادثِ والنوازل أو اعتددتُ لكل أمرٍ عتادَه وما يدفعُه ويُزيله.
ويُحتمل أيضا أن يكون أراد أنني لو كنتُ أعلمُ أجلي ووقتَ موتي وقربه
لأكثرتُ الطاعةَ لله والجهادَ في سبيله، وإنما أؤخرُ بعضَ ذلك لإخفاء وقت
أجلي، وليس يمتنعُ أن يستكثرَ من الخير من لا يعلمُ الغيبَ على غلبة ظنه
وقوة حَدْسِه أو الاحتياطَ والتحرُّر، وإن صحَّ أن يستكثرَ من الخير من قد
علمَ حالَه واطلع على ما يكونُ منه فلا تناقضَ في هذا.
وقد قيل إن السوءَ المذكور ها هنا هو الخبالُ والجنون، ومنه قولُه
تعالى: (إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ) ، قيل: بخبالٍ وجنونٍ نسبوه
إليه فكأنَّه قال: لو كنتُ أعلمُ الغيبَ ما مسَّني من المرض والنوم والآفات
المستغرَقة القاطعة عن التمييز وما يجري مجرى السوء الذي هو الخبال.
قالوا: ومن هذا أيضا قولُه: (رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ، وكيف يجعلُه مع الظالمينَ وهو قد نهاه عن الظلم وعن الكون مع الظالمين، يقالُ لهم: قد بينَّا الكلامَ في هذا في باب خلق الأفعال والتعديل والتجويز بما يُغني الناظرَ فيه.
وقد يجوزُ أن يجعله الله مع الظالمين بأن يُضلَّه ولا يلطُفَ له ويحرِمَه التوفيق، وذلك عدلٌ منه وصوابٌ في حكمته، وإنما أمره بأن يرغب إليه في التثبيت على الإيمان وأن لا يزيغَ قلبُه بجواز وقوعِ ذلك منه تعالى.