إمرارًا كما جاءت بلا كيف ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل».
ودرج على ذلك معظم أئمة العصر الذي بعد عصر التابعين مثل: مالك، وأبي حنيفة، والأوزاعي، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، وسفيان بن عيينة ومن تبع طريقتهم من أصحابهم والطبقة التي تليهم مثل: الشافعي، وعبد الله بن المبارك، وإسحاق بن راهويه، ونعيم بن حماد شيخ البخاري، وأحمد بن حنبل، والبخاري.
وقد سئل مالك رحمه الله عن هذه الآية، فقال للسائل: «الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، وفي رواية:(الكيف غير معقول)، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأظنك رجل سوء أخرجوه عني». وعن سفيان الثوري أنه سئل عن الآية، فقال:«فعل فعلًا في العرش سماه استواء». ثم طلع الشك بقرنه في نفوس مَنْ لم يزنوا الإيمان حق وزنه، فاضطر المتكلمون من أئمة الإسلام فيما اضطروا إليه من تبيين حقائق الصفات وتعلقاتها، إلى أن يخوضوا في الآيات وتأويل متشابهاتها؛ إقناعًا للمرتاب وإقماعًا لمن جاء يفتح لإلحاده الباب. ولم يروا عملهم هذا مخالفًا لما درج عليه السلف ولكنهم رأوا السلف سلكوا التأويل بإجمال، ورأوا أنفسهم في حاجة إلى تفصيل التأويل ورأوا أن كلتا الطريقتين تأويل. وفسروا قوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}[آل عمران: ٧]، بمعنى عطف قوله:{وَالرَّاسِخُونَ} على اسم الجلالة. ولقد أبدع إمام الحرمين في بيان وجه عدم الإمساك عن تفصيل التأويل؛ إذ قال: «إن كل مؤمن مجمع على أن لفظة الاستواء ليست على عرفها في الكلام العربي فإذا فعل ذلك فهو قد فسر لا محالة (يعني حيث لم يحمل اللفظ على ظاهر معناه) فلا فائدة في تأخيره عن طلب الوجه والمخرج البين، بل في تأخره عن ذلك إلباس على الناس وإيهام للعوام، وقال الغزالي:«لا خلاف في وجوب التأويل عند تعين شبهة لا ترتفع إلا به» ا. هـ. وتسمَّى هذه الطريقة طريقة الخلف وهي الطريقة المثلى المناسبة لما عدا القرون الثلاثة الأولى، ومن ثمَّ قال بعض العلماء:«طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم».
ومعنى هذا الكلام فيما أفهم أنا: أن السلف أرشدوا إلى تطلب السلامة من الخوض في مثله خشية قصور الأفهام والتورط في الشك، فلما لم ينصع الناس إلى نصحهم وأبوا إلا السؤال وإدخال الشك تعين سلوك طريقة الخلف فهي أعلم، أي: أدخل في العلم، أي: أكثر علمًا؛ لأن بيان التأويل وتفصيله يكثر فيه الاحتياج إلى الاستدلال بالعلم والقواعد.