قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ((التَّوْفِيق بَيْن الْآيَة وَالْحَدِيث فِي ذَمِّ الْعَمَل بِالرَّأْيِ وَبَيْن مَا فَعَلَهُ السَّلَف مِنْ اِسْتِنْبَاط الْأَحْكَام، أَنَّ نَصَّ الْآيَة ذَمُّ الْقَوْل بِغَيْرِ عِلْم؛ فَخَصَّ بِهِ مَنْ تَكَلَّمَ بِرَأْيٍ مَحْمُود عَنْ اِسْتِنَاد إِلَى أَصْلٍ.
وَمَعْنَى الْحَدِيثَ: ذَمّ مَنْ أَفْتَى مَعَ الْجَهْل، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُمْ بِالضَّلَالِ وَالْإِضْلَال، وَإِلَّا فَقَدْ مَدَحَ مَنْ اِسْتَنْبَطَ مِنْ الْأَصْل لِقَوْلِهِ: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} فَالرَّأْي إِذَا كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى أَصْلٍ مِنْ الْكِتَاب أَوْ السُّنَّة أَوْ الْإِجْمَاع؛ فَهُوَ الْمَحْمُود، وَإِذَا كَانَ لَا يَسْتَنِد إِلَى شَيْء مِنْهَا؛ فَهُوَ الْمَذْمُوم)) (١) .
قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ: ((وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَصِيرَ إِلَى الرَّأْي إِنَّمَا يَكُون عِنْد فَقْد النَّصِّ، وَإِلَى هَذَا يُومِئ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيح إِلَى أَحْمَد بْن حَنْبَل سَمِعْت الشَّافِعِيّ يَقُول: ((الْقِيَاس عِنْد الضَّرُورَة)) وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ الْعَامِلُ بِرَأْيِهِ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ أَنَّهُ وَقَعَ عَلَى الْمُرَادِ مِنْ الْحُكْمِ فِي نَفْس الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ بَذْلُ الْوُسْعِ فِي الِاجْتِهَادِ؛ لِيُؤْجَرَ وَلَوْ أَخْطَأَ. وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ، وَابْنُ عَبْد الْبَرِّ فِي بَيَان الْعِلْم عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ كَالْحَسَنِ، وَابْن سِيرِينَ، وَشُرَيْحٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، بِأَسَانِيدَ جِيَادٍ، [/٢١] ذَمِّ الْقَوْلِ بِالرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ وَيَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة: ((لَا يُؤْمِن أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُون هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْت بِهِ)) أَخْرَجَهُ الْحَسَنُ بْن سُفْيَانَ وَغَيْره، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٍ وَقَدْ صَحَّحَهُ النَّوَوِي فِي آخِر الْأَرْبَعِينَ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَمْرو بْن حُرَيْث عَنْ عُمَر قَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ؛ فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمْ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا؛ فَقَالُوا بِالرَّأْيِ؛ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)) فَظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ أَرَادَ ذَمَّ مَنْ قَالَ بِالرَّأْيِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ مِنْ الْحَدِيثِ لِإِغْفَالِهِ التَّنْقِيب عَلَيْهِ فَهَذَا يُلَامُ، وَأَوْلَى مِنْهُ بِاللَّوْمِ مَنْ عَرَفَ النَّصَّ وَعَمِلَ بِمَا
(١) شرح ابن بطال (١٠/٣٦٥) بمعناه. والمنقول من الفتح (١٣/٣٥٢) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute